في تصريح لافت لم يحظى بما يستحق من الإضاءة والتحليل، قال الرئيس أوباما في حوار مع قناة “سي بي إس” الأمريكية الأحد الماضي: إن “ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، هي مشاريع قامت بها قوات إقليمية، ونحن غير مستعدين لإرسال جنود للدفاع عنها”..
هذا يعني بكل اللغات، أن الرئيس أوباما غير مستعد لتحمل الفشل في الشرق الأوسط، وأن أحسن وسيلة للتملص من المسؤولية، هي تحميل الأدوات الإقليمية نتائج وتبعات الفشل في إسقاط سورية وإنهاء حزب الله وعزل إيران لانهاء مشروع المقاومة في المنطقة..
البيت الأبيض ومن خلال الناطق الرسمي، أوضح الرؤية الأمريكية للصراع في الشرق الأوسط بالقول: “إن مواجهة النفوذ الروسي في سورية ليس على أعلى سلم أولوياتنا”.. وبذلك تكون الإدارة الأمريكية قد أوضحت لمن يهمهم الأمر، أن الولايات المتحدة غير مستعدة لخوض حرب عالمية ثالثة مع روسيا ومن معها من أجل أحلام “العدو الاسرائيلي بأمن بعيد المنال، وأوهام تركيا بامبراطورية عثمانية إخونجية، وتطلعات ‘آل صهيةسعود’ لسيادة وهابية مستدامة على العالم العربي والإسلامي “السني”، في زمن تكسرت فيه الأصنام القديمة بفعل صحوة الشعوب، وثقافة المقاومة التي فجرتها الثورة الإسلامية الإيرانية..
هكذا إذن، وبتصريح مقتضب، غسل أوباما يده من الدم السوري والعراقي واليمني، وأدار ظهره لأدواته الإقليمية الفاشلة التي لم تنجح في تغيير المعادلات على الأرض برغم مليارات الدولارات التي صرفت، وعشرات الآلاف من أطنان الأسلحة التي استعملت، لإشاعة الفوضى الخلاقة في مكونات محور المقاومة من خلال توظيف الإرهاب والاستثمار في الموت والخراب ما فجر حملة انتقادات واسعة لسياسات الإدارة الأمريكية من قبل أهل البيت والحلفاء قبل الأدوات، الجميع أصيب بالجنون، فبقدر ما كان الدخول الروسي لتغييير المعادلات السياسية والعسكرية في المنطقة مفاجئا حتى للاستخبارات الأمريكية، بقدر ما كان صادما لفرنسا وبريطانيا وتركيا و”السعودية” بصفة خاصة، وحدها رئيسة الوزراء الألمانية اتسمت بكثير من التواضع والواقعية حين اعترفت، أن أمريكا وأوروبا ودول المنطقة فشلوا فشلا ذريعا في إيجاد حل سياسي في سورية بدل الرهان على الحل الأمني، واعتبرت هذا الفشل حقيقة مرة يجب الاعتراف بها.
حتى مصاصة الدماء وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ‘كوندوليزا رايس’ التي تبنت مفهوم “الفوضى الخلاقة” كنظرية تقول، بأن “وصول المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى متمثلة بالعنف والرعب والدم، يخلق إمكانية إعادة بنائه بهوية جديدة”، سارعت لكتابة مقال مشترك مع وزير الدفاع الأمريكي السابق ‘روبرت غيتس’ نشر الأسبوع الماضي في صحيفة “واشنطن بوست”، تساءلت فيه باستغراب: “كيف يستطيع فلاديمير بوتين الذي يقود دولة باقتصاد متدهور، وقوات مسلحة من الدرجة الثانية، التحكم في رسم مسار الأحداث الجيوسياسية في المنطقة على هذا النحو؟”.لكنها وبرغم صدمتها من فشل بلادها أمام روسيا، إلا أنها ومن باب الموضوعية، اعترفت للرئيس الروسي بـ”الحنكة السياسية”، وبأنه “صاحب اليد العليا دائما”، وقالت، “ميزة الرئيس بوتين أنه يستخدم ما بحوزته من أوراق بمهارة استثنائية، ويعرف تماما ما يريد فعله”..
والمصيبة، أن ما يهم الوزيرة ‘رايس’ في الموضوع برمته، ليس عشرات الآلاف من القتلى الذين تسببت فيهم “الفوضى الأمريكية الخلاقة”، ولا الدمار والخراب الذي أصاب البنية التحتية والمآثر الحضارية الإنسانية في سورية والعراق، ولا كارثة المهجرين قسرا من ديارهم بسبب توحش وإجرام الإرهاب، بل ما يهمها من كل هذا، هو كيف فشل الإرهاب في إسقاط سورية؟.. وترى أن الحل هو في “فرض منطقة حظر جوي في سورية مع تلافي الصدام العسكري مع روسيا”، لخلق واقع أمريكي على الأرض بالقوة وفق تصورها، وهي نصيحة كان من شأن ‘أوباما’ لو أخذ بها سيأخذ المنطقة برمتها نحو الكارثة المحققة، فلا روسيا ولا إيران سيسمحان بها، وقد يكون الرد تفجير المنطقة برمتها كما هدد الرئيس الأسد قبل أيام.
من جهته، أدرك الرئيس ‘بوتين’ عجز وفشل الإدارة الأمريكية بعد نفاذ كل أوراقها، ولمس رغبتها بالانسحاب منها دون التوافق على حلول سياسية مشتركة تحفظ الأمن وتحمي الاستقرار لجميع مكوناتها، فأعلن الخميس بصريح العبارة، أن “أمريكا لا ترغب في حوار سياسي مع روسيا لأنها لا تملك رؤية ولا أجندة أو مشروع واضح للسلام تستطيع الدفاع عنه”، و وصف الموقف الأمريكي الرافض للحوار بـ”غير البناء”، ما يعني ضمنا، أن أمريكا قررت ترك الحبل على الغارب للأدوات الإقليمية للعمل على عرقلة المشروع الروسي وإفشاله إن هم استطاعوا إلى ذلك سبيلا، دون أن تتحمل هي مسؤولية تصرفات أدواتها.
لكن، ما هي المعطيات التي جعلت أوباما يقرر فجأة الانسحاب من المنطقة وتحميل أدواته مسؤولية الفشل؟.. هناك بعدان، بعد سياسي وآخر عسكري:
البعـــد السياســـي..
في إجابته عن سؤال للإعلام، إن كان الدخول العسكري الروسي في سورية هو لدعم ‘الأسد’ كما تقول أمريكا وحلفائها (؟).. قال الرئيس بوتين بهدوء الواثق من صوابية قراره العسكري لدعم رؤيته للحل السياسي للأزمة السورية: إن “الزعيم الوحيد في سورية هو الشعب السوري”..
وفي هذا، تلتقي موسكو مع طهران، حول حق الشعب السوري الحصري في تقرير مصيره واختيار رمز سيادته دون تدخل خارجي، استنادا إلى شرعة الأمم ومبادئ القانون الدولي.. وهذا تحديدا هو ما تقول به القيادة السورية المؤتمنة على السيادة أيضا، وترفع شعار أن لا تفريط في وحدة الأراضي السورية وحق الشعب السيادي واستقلال القرار السياسي الوطني حتى لو كان دون ذلك الهلاك.
هذا الموقف المبدئي غير قابل للتفاوض بالمطلق، هو الذي يمثل جوهر الخلاف مع أمريكا التي تصر على فرض حل سياسي في سورية يخدم مصالحها وأمن “العدو الاسرائيلي” حتى لو تم ذلك على حساب إرادة وسيادة واستقلال سورية، وتعارض مع مصالح الشعب السوري..إلى هنا تبدو الأمور واضحة بشكل جلي لا لبس فيه للجميع، باستثناء من يصرون على رؤية الأمور في سورية بالعين الأمريكية والصهيونية