عندما سقط أشرف مروان من شرفة شقته بالعاصمة الإنجليزية لندن ليحتضنه الموت، اصطحب الرجل معه أسراره. فهل كان يعمل لصالح مصر أم إسرائيل؟ وهل تسبب الكشف عن هويته في اغتياله؟
من المؤكد أن أشرف مروان الذي وُصف بأنه أعظم جاسوس بالقرن العشرين كان على قيد الحياة عندما سقط من شرفة شقته الكائنة بالدور الخامس بإحدى شوارع العاصمة الإنجليزية لندن، والتي يبلغ سعرها 4,4 مليون جنيه إسترليني. لم يستغرق رجل الأعمال المصري كثيرًا من الوقت حتى تستقبل الأرض جسده، وكان ذلك في تمام الواحدة وثلاثين دقيقة ظهرًا في السابع والعشرين من يونيو/ حزيران لعام 2007. ووقع ذلك بحديقة الورود الخاصة بالبناية رقم 24 بشارع (كارلتون هاوس تيرس)، وهو الشارع الذي أقام به في الماضي ثلاثة رؤساء وزراء سابقين لبريطانيا، وهم: وليام غلادستن، ولورد بالمرستن Kوتشارلز غراي، والذي يقع على بعد أمتار من (ميدان بيكاديللي). في نفس الوقت، كانت السماء تضج بأصوات الطائرات المروحية التي تملأ جو السماء فوق الموكب المصفح لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، حيث كان بلير في طريقه للتقدم باستقالته. في هذه الأثناء كان المشهد متباينًا، امرأة تصرخ، شخص يتصل بالشرطة، المسعفون يصلون متأخرين للغاية، وينغلق الستار على موت أشرف مروان نتيجة انفجار بالشريان الأورطي.
وتبدو تفاصيل الدقائق الأخيرة لحياة مروان أكثر غموضًا، ليس بسبب عدم وجود أي شهود، ففي صباح اليوم الذي توفي فيه، كان أربعة رجال يتقابلون في البناية رقم 116 بشارع (بال مول)، وهي متاخمة للبناية التي كان مروان يقطن فيها، حيث مكث الأربعة في غرفة بالطابق الثالث تطل مباشرة على شرفة مروان وتراها بوضوح. وفي التواء غريب للحقائق كان هؤلاء الأربعة، وهم جوزيف ريباشي وعصام شوقي ومايكل باركهرست وجون روبرتس، يعملون بشركة يوبيكيم العامة المحدودة، وهي إحدى الشركات المملوكة لأشرف مروان. وكانوا ينتظرون أن ينضم إليهم رئيسهم، لكنه تأخر. وعندما هاتفوه ليعرفوا سبب ذلك، أكد لهم أنه سينضم للمجموعة توًّا.
يسترجع ريباشي الذي كان يجلس بالغرفة وعلى يساره النافذة، أنه انتبه مشدوهًا من صياح أحد زملائه: “انظروا إلى ما يفعله الدكتور مروان!”، وادعي اثنان من الشهود الآخرين في وقتها أنهم رأوا مروان يقفز من الشرفة، حينها تحرك ريباشي ليرى ما الذي يجري من خلال النافذة، فرأى الدكتور مروان يسقط. ركض شوقي، الذي أصبح بعد ذلك مديرًا لشركة يوبيكيم، إلى الأسفل من أجل المساعدة، بينما ظل الثلاثة الآخرون في الغرفة في حالة صدمة وحيرة من أمرهم. بعد لحظة حاول ريباشي أن ينظر من النافذة مرة أخرى في محاولة جاهدة لتحديد البقعة التي سقط عليها أشرف مروان.
وفي بريد إلكتروني استقبلته من ريباشي، أخبرني قائلًا: “رأيت شخصين لهما ملامح عربية ينظران من شرفة إحدى الشقق”، لكنه لم يعرف هو أو زملاؤه ما إذا كان الرجلان يقفان بشرفة الشقة رقم 10، حيث كان يسكن مروان، أم لا.
هل قفز أشرف مروان من شرفة منزله، أم دفعه أحدهم؟ وُجدت آثار مضادات الاكتئاب في دم الدكتور مروان في فحص ما بعد الوفاة، كما أفاد تقرير طبيبه الخاص أنه كان “تحت ضغط كبير خلال الفترة الأخيرة”، وأنه فقد عشرة كيلوجرامات في شهرين. بيد أن عديدًا من الأسباب تستبعد فرضية انتحاره، ولم يكن هناك أي إشعار لذلك؛ فمروان كان يحضر نفسه للسفر إلى الولايات المتحدة لمقابلة محاميه، كما أنه قُبل لعضوية ما يعرف بـ(النادي الإصلاحي) الذي يضم بين أعضائه الأمير تشارلز والسيدة ستيلا ريمنجتون الرئيسة السابقة لجهاز الاستخبارات البريطاني. وسبق ذلك بثلاثة أيام ابتياعه جهاز (بلاي ستيشن ثري) هدية لعيد ميلاد حفيده. وكان مروان يخطط وزوجته منى عبد الناصر، ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لاصطحاب أحفادهما الخمسة لقضاء عطلة. وكانت لمروان خطط ومواعيد وأسباب للحياة. ففي التحقيق الذي أجري في عام 2010، قال الطبيب الشرعي ويليام دولمان: “لم يكن ثمة دليل على وجود اضطراب عقلي أو نفسي”، لكن التحقيق لم يرتق إلى إصدار حكم. وخلُص دولمان إلى أنه لم يكن ثمة دليل لأي نية على الانتحار، لكن المفارقة كانت فيما أضافه، فقد صرح الطبيب قائلًا: “وبكل تأكيد ليس هناك دليل على مزاعم أن مروان قد اغتيل”.
وعلى الرغم من تلك الفرضية القائلة إن مروان لم يخطط لإنهاء حياته بيديه، فإنه كان يخشى عليها. فقد أخبر زوجته في المرة الأخيرة التي كانا سويًّا وحدهما في شقته أنه “قد يُقتل”، وأضاف مخبرًا الزوجة: “لدي أعداء كثر ومختلفون”. وتذكرت منى عبد الناصر ما كان يفعل الزوج خلال الأشهر التي سبقت وفاته، فكان يتفحص باب الشقة والأقفال كل يوم قبل أن يخلد إلى النوم. وتقول عبد الناصر إنها عادة جديدة لم تلحظها خلال سنوات زواجهم الثمانية والثلاثين.
ووفقًا لعائلة مروان، ثمة دليل آخر يلوح في أفق المشهد، أو بالأحرى غياب دليل؛ فالنسخة الوحيدة المعروفة لمذكراته، والتي كان على وشك الانتهاء منها، اختفت من رف الكتب خاصته في نفس يوم الوفاة على حد زعمهم. فالثلاثة مجلدات التي يبلغ كل واحد منها مائتي صفحة، وكذلك أشرطة التسجيل التي سجّل عليها مروان نص تلك المذكرات، لم تسترد إلى الآن.
يقول أحد الأكاديميين إن مروان عمل على مدار السنوات السابقة مع الاستخبارات المصرية والإسرائيلية والإيطالية والأمريكية والبريطانية، فهل كان يخطط لإفشاء أسرار قد تحرج ملوكًا وأممًا؟ من أخذ تلك الوثائق، إن كانت موجودة بالأساس؟ وهل كانت طريقة الوفاة نمطية؟ مروان كان المصري الثالث الذي يعيش في لندن ويموت في ظروف مشابهة. (في عام 2001 سقطت الفنانة سعاد حسني من شرفتها ببرج ستيوارت، وهي عمارة سكنية بمنطقة مايدا فيل، وذلك بعد أن حدث تقارب بينها وبين أحد الناشرين الذي عرض عليها كتابة مذكراتها. وفي أغسطس/ آب 1973 سقط الليثي ناصف، قائد الحرس الجمهوري للرئيس الراحل أنور السادات، من شرفته بنفس البرج، وكان هو الآخر يكتب مذكراته) والضحايا الثلاثة ارتبطت أسماؤهم بأجهزة الأمن المصرية.
وفشلت التحقيقات حول مقتل أشرف مروان في إيجاد كثير من الإجابات، حتى أن الطبيب الشرعي دولمان قال للمحكمة في عام 2010: “على الرغم من التحقيقات الدقيقة، بكل بساطة نحن لا نعرف الحقائق”. وبالفعل بعد ثلاثة أعوام من الفحص والاستجوابات التي أجراها فريقان جنائيان منفصلان، بمن فيهم نخبة من متخصصي الجريمة بمديرية سكوتلاند يارد، فلا يزال ثمة “العديد من الأسئلة التي ليس لها إجابات”، على حد تعبير دولمان.
القصة تبدو جاذبة لما فيها من أسرار تتأرجح بالظروف المحيطة بيوم الوفاة – وفاة تحدث في ساعة الغداء، وفي وسط لندن، وهناك شهود. فالقرائن تتناثر حول المشهد، لكن على ما يبدو ليس هناك دليل لمعالجة القصة. ولا تزال حكاية أشرف مروان تستثير حواس الفضوليين. فقد أخبرني حارس البناية رقم 24 بشارع كارلتون هاوس تيرس أن الصحافيين يمرون بمعدل “مرة بالعام الواحد”، في محاولة للحصول على إجابات حولما حدث في ذلك اليوم. ويمكنك تقديم طلب حرية تداول المعلومات حول قضية أشرف مروان، وستجد في انتظارك قائمة مفصلة تعدد الاستثاءات حول هذا الموضوع من أجل حماية ملفات وكالات الاستخبارات البريطانية المرتبطة بالقضية. فحياة مروان ووفاته لا تزال مليئة بالغموض والتفاصيل غير الواضحة التي أوصلت كُتَّاب النعي إلى كآبة الأسئلة الممتلئة بـ”ماذا لو” والإجابات المتخمة بـ “ربما”.
* * *
وتحديدًا في اللحظة التي سقط فيها أشرف مروان من شرفته، كان أرون بريغمان يجلس في مكتبه بقسم دراسات الحرب بكلية كينجز لندن في انتظار المكالمة التي لم تأت من الجاسوس. غادر بريغمان مكتبه بعدها بسويعات قليلة متجهًا إلى ويمبلدن حيث اصطحب عائلته لتناول الغداء بمطاعم ناندوز. وبمجرد أن غادر المطعم استقبل هاتفه المحمول مكالمة من أخته في إسرائيل تقول: مروان قد مات. أربكت تلك الأنباء بريغمان، ولكن حين وضعها في سياق موعدهما الذي لم يتم، فلم تبد أنها مفاجئة للغاية. فقد ترك له مروان عددًا من الرسائل المليئة بالأسى والمسجلة على البريد الصوتي لهاتفه خلال الأيام التي سبقت وفاة مروان، وبريغمان كان يعرف أن صديقه كان يخشى من أن حياته كانت في خطر. أضف إلى ذلك أن بريغمان كان يعرف أنه مسئول جزئيًّا عن هذا الوضع.
كانت العلاقة معقدة بين بريغمان ومروان، فلم يتقابلا شخصيًّا سوى مرة واحدة من قبل، منذ حوالي أربعة أعوام، في فندق الإنتركونتيننتال بلندن. (يقول بريغمان: “اقتربت بحذر من خلال الشوارع الصغيرة لكي أتأكد أنني غير ملاحق. كنت متأخرًا، أما هو فكان قد وصل بالفعل. طويل القامة، ويرتدي وشاحًا أحمر اللون”). ومع ذلك فقد تشابكت حياتهما. فقبل أن يدخل بريغمان حياة مروان، كان المصري، معروفًا بأنه رجل أعمال ثري ومشجع نهم لفريق تشيلسي، هذا إن كان معروفًا من الأساس (كان مروان يمتلك 3,2 من أسهم النادي، كما تولت إحدى شركاته ملاعب كرة القدم لناديي تشيلسي وفولهام خلال فترة سابقة، قبل أن يتم بيعهما بأرباح كبيرة). ولكن كل هذه الأمور تغيرت مع ظهور بريغمان في الصورة.
وُلد أشرف مروان عام 1944، وكان أبوه ضابطًا بلواء الحرس الجمهوري. وعندما بلغ الواحد والعشرين من العمر حصل مروان على درجة البكالريوس بمرتبة الشرف الأولى من قسم الهندسة الكيميائية بجامعة القاهرة، وتم تجنيده ليخدم بالجيش المصري بعد ذلك. وفي عام 1965، كان مروان يلعب مباراة تنس بحي مصر الجديدة بالعاصمة المصرية، عندما راقب فتاة صغيرة وجذابة تسمى منى عبد الناصر، الابنة الثالثة والمفضلة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكانت تبلغ من العمر سبعة عشر عامًا في هذا الوقت. أزهرت ورود الحب بينهما، وتزوجا في العام التالي، ليدخل أشرف مروان بين دوائر صفوة المجتمع. استكمل الرجل الصغير سنوات الخدمة بالجيش لعامين آخرين، قبل أن يسافر إلى لندن ليبدأ دراسته للحصول على درجة الماجستير في الكيمياء.
بعض المصادر ادعت أن مروان كان غير راضٍ عن المميزات العائلية التي كان يحصل عليها. (مروان كان طالبُ مال على مدار حياته، فقد تعدت ثروته النهائية أربعمائة مليون جنيه إسترليني، وكان الاسم الذي يطلق على شركته الأم هو “استثمارات كَبرَى” تكتب بالإنجليزية Cabra أي “أن تكبر أكثر”) ووفقًا لما يقوله أحد المؤرخين، أنه فتن زوجة أحد شيوخ الكويت من أجل أن يكمل دخله الطلابي، والتي أمدته بدعم مادي إضافي. وعندما علم الرئيس المصري جمال عبد الناصر بالترتيبات من السفارة المصرية بلندن بعدها بأشهر قليلة، أمر زوج ابنته بالعودة إلى القاهرة وطلب منه في النهاية أن يطلق زوجته، لكن الزوجين رفضا، وبمرور الوقت هدأ عبد الناصر، وبدلًا من خيار الانفصال أمر مروان بأن يبقى بالقاهرة ولا يسافر إلى لندن إلا من أجل تسليم أوراقه الدراسية وحضور الامتحانات.
وفي عام 1969، عندما كان (الألبوم الأبيض) لفريق (البيتلز) لا يزال يعتلي قائمة الأعلى مبيعًا، زار مروان لندن من أجل استشارة طبيب شارع هارلي، أو هكذا كان السبب الظاهري، حول مرض أَلَمَّ بمعدته. ووفقًا للروايات المسرحية المؤكدة التي قدمها المؤرخ هوارد بلوم في كتابه الذي صدر في عام 2003 بعنوان “ليلة الدمار: الرواية الأخرى لحرب يوم الغفران”، فإن مروان أعطى الطبيب فحوصات الأشعة السينية له ومعها ملفًا مليئًا بالمستندات الرسمية للدولة المصرية، وطلب من الطبيب أن يسلمها إلى السفارة الإسرائيلية في لندن. وبعدها بثلاثة أيام اتصل عميل من الموساد الإسرائيلي بمروان، حيث خرج في نزهة بمحلات هارودز الشهيرة بلندن (والتي سيُكِنّ صاحبها المستقبلي، محمد الفايد، العداء لأشرف مروان فيما بعد).
يقول كبار عملاء الموساد أن الأمر لم يكن هكذا، ففي روايتهم الأقرب للواقع والتي أمدوها لمحلل جيش الدفاع الإسرائيلي السابق يوري بارجوزيف، ليضيفها في كتابه الذي صدر عام 2010 بعنوان “هامالاخ” أو “الملاك”، ادعى هؤلاء أن مروان اتصل بالسفارة الإسرائيلية وطلب التحدث مع أحد أعضاء الفريق الأمني، لكنه صُرف مرتين على الأقل قبل أن يُسمح له بترك رسالة. وعرَّف مروان نفسه بالاسم وأبدى رغبته بالعمل مع الاستخبارات الإسرائيلية، لكنه فضّل عدم ترك رقم هاتف له، لأنه كان من المفترض أن يعود إلى مصر في اليوم التالي، وقال أنه سيهاتفهم مرة أخرى بعد الظهيرة. وعندما هاتفهم لم يستقبل ردًّا، ولكنه ترك رقم هاتف الفندق الذي يقيم به في هذه المرة.
كان شموئيل غورين، رئيس مكتب الموساد في أوروبا، في لندن في هذه الأثناء. وعندما سمع غورين رسالة مروان تعرف على الاسم في الحال. والشكر في هذا الأمر موصول لقرب مروان من زعماء مصر، فالموساد كان قد فتح ملفًا له بالفعل باعتباره هدفًا محتملًا للتجنيد، حتى أنهم كان لديهم صورة لمروان لكي يسلموها لتضاف إلى الملف، والتي كانت التُقطت في يوم زفافه منذ أربعة أعوام. اتصل غورين بالرقم الذي تركه مروان، ومع العلم بأن الوقت كان ضيقًا، أخبره بأن يبقى في غرفته بالفندق، ثم رن جرس الهاتف مرة أخرى، وكان على مروان أن يذهب إلى مقهى قريب من الفندق.
في المقهى كان هناك رجلٌ يجلس على أحد الطاولات يقرأ الصحيفة، ذهب ببصره نحو الصورة الملقية بجوار فنجان القهوة على الطاولة ليقارن بينها وبين الرجل فارع الطول الذي دخل للتو من باب المقهى، ثم نظر من النافذة إلى الخارج وأومأ برأسه إلى شخص آخر ينتظره في الخارج. دخل الشخص الآخر إلى المقهى وسار حتى وقف أمام مروان وقال: “السيد مروان؟ سعدت بلقائك. أدعى ميشا”. نهض مروان ليتصافح مع الرجل. أما الرجل صاحب الصحيفة، وهو شموئيل غورين نفسه، غادر المبنى دون أن يلحظه أحد. وعندما بدآ الحديث، أخبر مروان ميشا (واسمه الأول الحقيقي دوبي) عن صِلاتِه وما يمكن أن يقدمه للإسرائيليين. دفع مروان بظرف إلى الطاولة، وقال: “هذه عينة مما يمكن أن أقدمه، أنا لا أطلب أي شيء الآن، لكني في انتظار مكافأتي في مقابلتنا القادمة”. ومقابل ذلك؟ مائة ألف دولار.
وتشكك الموساد من نوايا مروان، فهل كان يخطط لأن يصبح عميلًا مزدوجًا من أجل أن يمد الإسرائيليين بمعلومات خاطئة، أو لإمداد صهره بأسرار عن إسرائيل؟ وكان لدى مروان إجابات عن هذه الأسئلة، فقد كان، وفقًا لما أخبر ميشا به، مفزوعًا من حقيقة أن مصر انهزمت في حرب الستة الأيام عام 1967، وأنه ببساطة أراد أن يقف مع الجانب الفائز. وبعد تلك المقابلة، تقابل ميشا وغورين مرة أخرى في سيارة أجرة. وابتدأ الرجلان في تفحص الملفات التي سلمها مروان إلى ميشا أثناء طريقهما إلى السفارة، وبدت تلك الملفات أصلية. ووفقًا لما ورد بصحيفة جيروزاليم بوست، فإن غورين قال في هذا اليوم: “مواد مثل هذه من مصدر كهذا، إنها أشياء تحدث مرة كل ألف عام”. ووفقًا لوصف عميل موساد آخر يدعى بلوم لهذا الموقف، فإنه يقول: “كما لو كان لدينا شخص ينام في سرير عبد الناصر”. ويوضح الاسم الحركي الذي كان مروان يُعرف به لدى الموساد بالمكانة شبه السماوية التي سيصير عليها الرجل، فكان اسمه المستعار لدى جهاز الاستخبارات الإسرائيلية هو “الملاك”.
استمر مروان في اكتساب الثقة في مصر، فبعد وفاة صهره في سبتمبر/ أيلول 1970 مرر مروان مستندات إسرائيلية سرية إلى خليفة عبد الناصر الرئيس الراحل أنور السادات، ونتيجة لذلك أصبح له تأثير أكبر. وأصبحت الشكوك التي كان الموساد يُكنّها لمروان أكثر تعقيدًا بعد ذلك بثلاثة أعوام، عندما أرسل رسالة إلى الإسرائيليين في أبريل/ نيسان 1973 يحذرهم فيها من هجوم مصري وشيك. فأرسلت إسرائيل آنذاك عشرات الآلاف من ضباط وعساكر الاحتياط والعديد من الألوية إلى سيناء، ولم يحدث أي هجوم، بل تكلفت إسرائيل جراء حالة التأهب التي تسببت الرسالة بها ما يقرب من 35 مليون دولار. وفي الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، أرسل الجاسوس رسالة إلى الإسرائيليين يحذرهم فيها من هجوم مصري يلوح في الأفق (هاتف مروان الضابط المكلف به من باريس، حيث كان في زيارة مع وفد مصري، وقال له إنه يريد أن يتناقش معه حول “العديد من الكيماويات” وهي كلمة السر المتفق عليها والتي تعني تحذير من حرب وشيكة). في الثامنة من صباح اليوم التالي، اجتمعت الكابينة الوزارية الإسرائيلية في جلسة طارئة، وقرروا التحرك لتعبئة دباباتهم وفق المعلومات التي أمدها مروان. وكانت المعلومات صحيحة هذه المرة، وإن كانت مخطئة في فرق أربع ساعات، فقد حذر مروان من أن المصريين سيبدأون هجومهم في الغروب، لكن الاجتياح بدأ في الثانية ظهرًا، أي أربع ساعات قبل الموعد الذي حدده مروان.
لماذا ولج أشرف مروان ذلك المقهى الكائن في لندن في ظهيرة ذلك اليوم؟ لقد كان يعلم جيدًا أن خدماته محل اهتمام. في هذا الوقت كان التعداد السكاني لإسرائيل أقل من ثلاثة ملايين، وكان اعتماد الجيش على الاحتياطيين، وكانت الحكومة في حاجة لمعلومات تساعدهم على تحديد موعد تعبئة هؤلاء الاحتياطيين. فالحافز الذي دفع مروان يمكن اعتباره مفتاح فك شفرة ولائه الحقيقي، وربما أيضًا هوية قاتله. هل كان متعسرًا ماديًّا وغاضبًا من صهره، فقرر أن يبيع خدماته للإسرائيليين كي يصبح غنيًّا؟ (يدّعي أحد المصادر أنه استقبل على مدار حياته الوظيفية أكثر من ثلاثة ملايين دولار من الإسرائيليين) أو هل كان وطنيًّا مخلصًا، يريد بكل بساطة أن يمد الموساد بمعلومات هدامة ليؤدي دور العميل المزدوج؟
ما لا يمكن دحضه هو حقيقة أن مروان عمل مع الإسرائيليين، فزوجته منى قالت ذلك في بداية الألفينيات، وواجهت زوجها بذلك. وفي البداية أنكر مروان إعطائه معلومات للإسرائيليين، غير أنه اعترف فيما بعد أنه فعل ذلك، لكنه ادعى أن تلك المعلومات لم تكن صحيحة. فأين الحقيقة؟ يؤمن بريغمان أنه يعرف الإجابة، لكنّ ما يؤرقه هو سؤال آخر: هل كان مسؤولًا عن موت الجاسوس؟
* * *
أخبرني بريغمان بوقاره الأكاديمي قائلًا: “الكشف عن هوية جواسيس لا يزالون على قيد الحياة كان خطأً كبيرًا، لا تفعلها أبدًا، لا تفعلها حتى وإن كان لديك فرصة لذلك”، ثم أراد أن يهدأ من نبرة النصح تلك، فقال: “أرى أنك ذكي، فلا تفعلها”.
تقابلنا في وقت ظهيرة غائم بأحد أيام فبراير/ شباط في كلية كينجز لندن، وهي جامعة قديمة ممتئلة بأنماط البناء المنمقة والممرات التي تشبه المتاهة. في نفس هذا المكان جلس بريغمان في السابع والعشرين من شهر يونيو/ حزيران عام 2007 في انتظار مكالمة من الجاسوس ليخبره أين يمكنهما أن يتقابلا لاحقًا في ذلك اليوم. لم تأت المكالمة أبدًا، ولم يشعر بريغمان بالقلق كما ينبغي، فخلال علاقتهما التي استمرت خمسة أعوام اعتاد بريغمان على هوائية مروان، وهي عادة تولدت لدى الجاسوس نتيجة الحذر الدائم وجنون الارتياب.
حليق اللحية تمامًا، ذو ابتسامة تحدها غمازتان، وصوت نصف هامس، ما جعلني أميل بجسدي إلى الأمام أثناء الحديث في صورة تآمرية. كان بريغمان متململًا وسريع الانفعال ولديه رغبة في إخبار القصة ودوره فيها. (حرص بريغمان على الاحتفاظ بالأوراق الخاصة بالقضية، بما في ذلك نصوص مفرغة لمحادثاته مع مروان، وذلك في أرشيف الكلية، ويبدو أن مؤلف كتاب “تاريخ إسرائيل” كان يود أن يحافظ على مكانه من خلال الظهور في مؤلفات قد تُكتب في المستقبل عن القضية).
يعد بريغمان أحد رواد المؤرخين الذين كتبوا عن حروب إسرائيل في القرن العشرين (فقد كتب أكثر من عشرة كتب عن هذا الموضوع، وعمل مستشارًا للبي بي سي في عملين وثائقيين مرتبطين بهذا الموضوع). لكنه وصف نفسه لي بأنه “أكاديمي بروح صحفي”. فموهبته بالعمل الاستقصائي تبدو واضحة في قصة تمكنه من كشف هوية مروان الذي عرف بالعميل “الملاك”– وهي التفاصيل التي لم يكشفها من قبل. يقول بريغمان: “أعتقد أنه من الممكن أن نأخذ في الاعتبار كل المواد المطبوعة عن حرب يوم الغفران، ثم نقوم بوضع ثلاث هويات في عين الاعتبار”. وبعد أن أمعن النظر في الوثائق والمذكرات، زادت شكوك بريغمان وأصبح مروان ناقته السمينة. يقول بريغمان: “كنت في حاجة إلى تأكيدات، فلا يمكنك أن تتهم شخصًا ما أنه جاسوس، ومروان شخص ثري للغاية، ويمكنه أن يقاضيني على مثل هذا الاتهام”.
بدأ بريغمان منذ عام 1999 في إرسال مقالاته إلى مروان، أملًا في أن ينجذب الجاسوس إلى الطُعم، وهو ما لم يحدث. في نهاية الأمر، ابتدع الرجل الأكاديمي خطة من أجل الأمر، فانتوى أن يسافر إلى إسرائيل لمقابلة محرر الكتاب الذي نشر منذ سنوات قليلة مذكرات اللواء إيلي زيرا، المدير السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية. أشار زيرا- الذي صُرف من الخدمة جراء التحرك بناءً على المعلومات الخاطئة التي أمدهم بها الجاسوس في أبريل 1973- في كثير من المراجع بكتابه إلى “الملاك”. يقول ريغمان: “الفرضية التي بنيت عليها خطتي، أنه حتى وإن رفض زيرا كليًّا التأكيد على الاسم، فقد يفعل المحرر”.
تقابل الرجلان بإحدى مقاهي تل أبيب في عام 2000. يقول بريغمان: “خططت لتلك المقابلة بمنتهى الدقة”، فقد جلس الأكاديمي وبدأ في محادثة قصيرة. يضيف بريغمان: “بعدها بعشر دقائق طرحت عليه السؤال”، ولم يكن بريغمان مباشرًا إلى هذا الحد من قبل حين بادر المحرر بالسؤال: “هل كان مروان هو الجاسوس؟”، حينها ذهب المحرر ببصره بعيدًا وابتسم. يقول بريغمان: “كان هذا هو التأكيد على فرضيتي، (الملاك) هو مروان”.
وفي لندن عندما بدأ طباعة الكتاب، ظل بريغمان حذرًا. ففي كتابه الأول عن حروب إسرائيل، الذي نُشر لاحقًا في عام 2000، أشار بريغمان إلى “الملاك” بصورة إيجازية أنه “الذراع اليمنى لعبد الناصر”، ثم أرسل نسخة إلى مروان، لكنه لم يتلق ردًّا. أثارت تلك الإهانة حفيظة بريغمان، فذهب إلى أبعد من ذلك في كتابه الثاني “تاريخ إسرائيل” الذي نُشر في سبتمبر 2002. يقول بريغمان: “ذكرت في الكتاب أن (الملاك) كان أحد أقارب عبد الناصر، وزعمت أنه كان يطلق عليه أحيانًا (النسيب)”، ولم تكن سوى كذبة من أجل استثارة مروان واستثارة صحفيين آخرين، وأرسل بريغمان نسخة إلى مروان مرة أخرى ولكن هذه المرة أرفقها بعبارة “إلى أشرف مروان، بطل مصر”، ولكن التجاهل لا يزال سيد الموقف. بيد أن الخطة نجحت هذه المرة، ففي مصر رتب أحد الصحفيين مقابلة مع مروان وسأله مباشرة عن رأيه في مزاعم بريغمان، فأجاب مروان: “الكتاب الذي كتبه بريغمان ليس سوى قصة بوليسية غبية”.
يتذكر بريغمان قائلًا: “جرحتني كلماته. عملت على إخراج هذا الكتاب لأربعة أعوام، فكيف يجرؤ على ذلك؟” ليس هذا كل ما في الأمر لبريغمان، وهو الذي يؤمن أن مروان “ارتعشت جفونه” ما دفعه إلى نفي الأمر ووصف الكتاب بالخيالي، وكان من الأبدى أن يهدد بمقاضاة الكاتب للتشهير به، وعليه فإن بريغمان يعتقد أن مروان أعطاه تأكيدًا آخر بصحة فرضيته. يقول بريغمان: “الصحفي الساكن بداخلي كان يعرف أن لديه سبقًا صحفيًّا، فليس هناك معنى إن لم أكشفه”. اختلطت مشاعر السخط والانتصار لدى بريغمان، وفي الأسبوع التالي وافق على إجراء مقابلة مع صحيفة الأهرام العربي الأسبوعية المصرية. تقابل مع الصحفي في مقهى ستاربكس بويمبلدن (بالقرب من مطعم ناندوز، الذي سيستقبل فيه بعد سنوات خبر وفاة مروان)، وصرح بريغمان خلال المحادثة باسم مروان باعتباره الجاسوس، وقال خلال تلك المقابلة: “ينبغي أن أحافظ على سمعة اسمي باعتباري مؤرخًا”.
في التاسع والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 2002، كان قد مر سبعة أيام على نشر مقابلة بريغمان في إسرائيل، وكان الرجل في حديقة منزله يزيل أوراق الشجر التي سقطت في بداية فصل الشتاء، عندها صاحت زوجته تدعوه أن يدخل إلى المنزل ليستقبل مكالمة هاتفية. وعندما رفع بريغمان الهاتف إلى أذنيه سمع على الطرف الآخر صوتًا غليظًا ذا لكنة عربية يقول: “أنا الرجل الذي كتبت عنه”، فرد بريغمان قائلًا: “كيف يمكنني التأكد من ذلك؟” فرد الصوت ببساطة قائلًا: “لقد أرسلت إلي الكتاب وعليه إهداء…”.
بدأ الاثنان علاقة متلجلجة. بريغمان كان يتصل بسكرتارية مروان في القاهرة عندما يريد التحدث معه. يقول بريغمان: “كنت أرسل إليها فاكس لأُعرف هويتي، وبدورها تقوم بتمريره إلى مروان في لندن، الذي يتصل بي بعدها بدقيقتين”، يضيف بريغمان أن مروان في العادة كان يتصل ولا يقول شيئًا وينهي المكالمة ثم يعاود الاتصال بعدها بدقائق، ويصف الأكاديمي ذلك قائلًا: “أمور جواسيس”. كان مروان دائمًا يقدم نفسه لبريغمان أنه “موضوع كتابه”، كما حذر بريغمان من أن كل مكالماته مسجلة بواسطة أجهزة الاستخبارات المصرية والبريطانية. على عكس ما توقع بريغمان، لم يكن أشرف مروان غاضبًا منه. فيضيف المؤرخ: “أعتقد أنني أربكته. رجل أكاديمي على غير المتوقع، يخرج ويقول أشياءً… كان يبدو منطقيًّا، وكان يدرك أن سره أصبح معروفًا. إنه كان ذكيًّا وفاتنًا، فقد غير من وجهتي، لكنه أيضًا شخص يمكن أن يكون قاسيًا للغاية. وكما ترى، لقد استخدم سحره وغير من وجهتي لأصير دفاعه. وفجأة لم أرَ ذلك الجاسوس المراوغ، بل الشخص الذي يعاني من مشاكل في القلب، الشخص الذي يعاني من الضغط وكل الأشياء الأخرى”. يسترجع بريغمان بذاكرته أن كثيرًا من المكالمات كانت طويلة، ويقول: “لم يكن لديه شخص ليتحدث إليه عن كل هذه الأشياء، فلا يمكن للمرء أن يتحدث عن الجاسوسية مع زوجته وأبنائه”.
وأخيرًا سأل بريغمان عن إمكانية أن يكتب السيرة الذاتية لمروان، لكن الأخير تجاهل الأمر. يقول المؤرخ: “إنه أراد أن تموت القصة بلا سيرة ذاتية”، وهو ما يعد أمرًا مربكًا في ظل ادعاءات ضياع مذكراته، فلماذا يبدأ مروان في كتابة سيرته الذاتية إن أراد أن تُنسى حكايته؟ أخبرني بريغمان قائلًا: “السؤال الذي يساوي مليار دولار هو: هل عمل مروان على الكتاب من الأساس؟ ربما كانت هذه هي طريقته من أجل أن يقطع الطريق أمام محاولاتي لكتابة نسختي من القصة”. ومع مرور الأشهر، كان مروان يطلب نصائح بريغمان فيما يتعلق بعملية الكتابة، حتى أنه طلب من بريغمان أن يحرر الكتاب عندما ينتهي منه– وهو ما جعل الأستاذ الجامعي أكثر تشككًا. يضيف بريغمان قائلًا: “كنت أسأله من حين إلى آخر عن اسم الكتاب وعن موعد الانتهاء منه؟ وعما إذا كان سيكتبه بالعربية أم الإنجليزية؟ وأجابني وقتها أنه سيكون بالإنجليزية فالعرب لا يقرؤون”.
بعد وفاة مروان، أصبح هاجس بريغمان هو إيجاد دليل على وجود تلك المذكرات. ولذا فقد اتصل بكل أرشيف في المملكة المتحدة والولايات المتحدة ليرى ما إذا ترك مروان أي نسخة من المذكرات، ولم يستقبل سوى رد واحد من ماري كاري، أمينة مكتبة بالأرشيف الوطني بواشنطن، التي أرسلت بريدًا إلكترونيًّا طويلًا إلى بريغمان تؤكد فيه أن مروان قد زار الأرشيف مرتين، في يناير ومارس عام 2007، وكلا المرتين لم يُعلَن عنهما من قبل. وساعدت كاري مروان في البحث عن اسمه بقاعدة بيانات إحدى الملفات الحكومية الأمريكية التي رُفعت عنها السرية. وظهر اسمه في نسخة من محادثة بين هنري كيسنجر ووزير الخارجية المصري السابق إسماعيل فهمي، تعود إلى منتصف السبعينيات، والتي خلالها كان الثلاثة الرجال يتباحثون حول صفقة سلاح. مروان كان يمشي ممسكًا بعصا، ولم يذكر أبدًا أية مذكرات. وفي المرة الثانية أرسل مروان إلى كاري صندوقين شيكولاتة )جودايفا( بعد أن غادر الأرشيف ولم يعد مرة أخرى. وأخبر بريغمان الشرطة أنه يعتقد أن هناك كتابًا، لكنه أصبح غير مقتنع الآن؛ فعلى الرغم من الطلبات المتكررة، لم ير كلمة واحدة على الإطلاق.
لم يتقابل الرجلان وجهًا لوجه سوى مرة واحدة في أكتوبر 2003، في البداية دعا مروان بريغمان لمقابلته بفندق دوريتشيستر. يقول بريغمان: “يعد الدوريتشيستر كابوسًا للإسرائيليين أمثالي”. (ففي نفس الفندق أطلقت مجموعة فلسطينية منشقة النار على السفير الإسرائيلي لدى بريطانيا في يونيو 1982، ما تسبب في بدء الحرب في لبنان، وهي الحرب التي قاتل فيها بريغمان برتبة ضابط مدفعية). طلب بريغمان أن يتقابلا بدلًا من ذلك في فندق الإنتركونتيننتال في طريق بارك لين. وكان مروان يخشى على حياته بالفعل، فقد أخبر بريغمان أن كتاب هوارد بلوم الذي نشر في عام 2003 عن حرب يوم الغفران، والذي ذكر اسمه صراحةً باسم “الملاك”، وأورد تفاصيل حول كيفية بدء الجاسوس في عمله مع الإسرائيليين، ما كان إلا “دعوة من أجل اغتيالي”. العلاقة بين بريغمان ومروان كانت عن بعد لكنها كانت قائمة، ويعتقد بريغمان أن مروان أراده أن يروي نسخة الحكاية التي أراد الأخير أن تخرج للعلن. ومع ذلك فإن صداقتهما كان بها خيوط من المودة؛ فيقول بريغمان إن مروان كان وحيدًا. وتحولت العلاقة بينهما في عام 2007 إلى “علاقة أكثر دراماتيكية” حسبما وصفها بريغمان وذلك تواترًا مع رسائل البريد الصوتي الملئية بالذعر التي كان يرسلها مروان إليه.
وعلى الرغم من أن بريغمان عرّض حياة مروان لخطر محتمل بعد أن كشف أنه هو “الملاك”، فلم تكن كلماته سوى كلمات يتفوه بها فم مؤرخ، ولم تؤكد أية سلطة عليا صحة المعلومات، وهو ماحدث بعد ذلك بفترة قصيرة في إسرائيل. فقد أضحى مروان موضوع الساعة بإحدى القضايا التي شغلت محكمة رفيعة المستوى في إسرائيل، وهي القضية التي كان طرفاها اثنين من كبار الضباط الإسرائيليين، وهما اللواء زيرا (الذي أخبر محرر كتابه بريغمان بهوية مروان) والقائد السابق لجهاز الموساد تسفي زمير الذي اتهم زيرا بتسريب هوية مروان إلى الصحافة. وعلى الصعيد الآخر طلب زيرا مقاضاة زمير للتشهير به. واستمرت القضية لفترة طويلة إلى أن حكم القاضي ثيودور (وهو رجل صعب المراس، على حد وصف بريغمان) في الخامس والعشرين من مارس/ آذار 2007 بأن زيرا قد سرب هوية “الملاك” لأشخاص غير مصرح لهم بمعرفة تلك المعلومات. وخرجت القضية للعلن بعدها بثلاثة أشهر، بتاريخ 14 يونيو. وخلال ثلاثة عشر يومًا من هذا التاريخ، كان مروان في عداد الموتى.
عندما رأى بريغمان تقارير القضية التي ذكر فيها القاضي صراحة ولأول مرة اسم مروان باعتباره “الملاك”، كاتَبَ المؤرخ مروان على الفور محذرًا إياه من أن حياته قد تكون في خطر. وأرسل بريغمان، الذي حذره مروان من الاتصال به مرة أخرى، بالخطأ إلى عنوان الجاسوس القديم، فيقول: “في العادة يعاود الاتصال بي خلال 48 ساعة، لكنني لم أستقبل منه أية مكالمة لأسبوع”، وعندما استقبل مروان الرسالة في نهاية الأمر ترك ثلاث رسائل صوتية مليئة بالفزع على البريد الصوتي لبريغمان، وكلها كانت خلال ساعة واحدة. يضيف بريغمان، لم يعرف أحد شيئًا عن تلك الرسائل، فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي تحدث خلال خمسة أعوام تعارفي به”.
هذا ما يقودنا إلى المشهد الذي كان فيه آرون بريغمان ينتظر مكالمة أشرف مروان بمكتبه في نفس اليوم الذي توفي فيه الجاسوس، وهذا يقودنا إلى السبب الذي جعل بريغمان يشعر بالذنب الشديد. كتب بريغمان عن ذلك: “لقد كنت بطلًا عظيمًا عندما كشفت هويته، لكنني أصبحت شيئًا صغيرًا للغاية بعد أن توفي”.
قال بريغمان بهدوء هذه المرة: “انظر، باعتبارنا صحافيين فإننا نسعى بجهد إلى كسر صندوق الحقائق إلى الحد الذي يجعلنا ننسى أن ثمة أشياء من حولنا. عائلتك وعائلته، نحن في النهاية بشر. ثم بعد ذلك تستحيل الشخصية التي على الورق إلى صوت مسموع، تستمع إلى صوت أنفاسه، وصوت شكواه من مشاكل قلبه. إذن فمن هو الشخص الذي كنت تنظر إليه على أنه الجاسوس الخارق الذي صنع من ذهب وكل هذه الحكايات الأخرى؟ هذا ليس حقيقيًّا، هو مجرد بشر”.
هل قفز مروان من شرفته، أم تمت مساعدته على القفز؟ أخبرني بريغمان قائلًا: “ليس من الضروري أن أحدهم قد دفعه جسديًّا، يمكن لأي شخص أن يخبره أن لديه ولدين، وإن أراد أن يتركهما بلا أذى فعليه أن يقفز… قد يكون الأمر هكذا، لكن التحقيقات لم تقرر شيئًا”، كما لم تتمكن من تحديد أية دولة أو أية منظمة خلف تلك الدفعة، وهل كانت دفعة جسدية أم نفسية؟
يقول المؤرخ: “أنا لا أعرف، ربما يعرف البريطانيون شيئًا ما، إنه هنا في مكان ما”.
إن كان البريطانيون على علم بشيء ما، إذًا فهم لم يغضوا الطرف عن الأمر. وقد حددت الشرطة هوية الرجلين اللذين كانا يقفان في شرفة مروان حينما سقط ليلقى حتفه، لكنهم لم يعلنوا عن اسميهما أبدًا، فكل المعلومات المرتبطة بحياة مروان أو وفاته تخضع، حتى 30 يوليو 2015، لستة استثناءات على الأقل من قانون حرية تداول المعلومات، بما في ذلك:
باب 23 (الفقرة الخامسة): المعلومات المرتبطة بالأجهزة الأمنية.
باب 24 (الفقرة الثانية): الأمن القومي.
باب 27(الفقرة الرابعة): العلاقات الدولية.
وكان الرئيس المصري آنذاك، محمد حسني مبارك، هو الرئيس الوحيد الذي وجه أصابع الاتهام إلى جهة بعينها (حيث رمى الكرة في ملعب الليبيين). وإن كانت مصر هي الدولة التي تقف وراء مقتل مروان، فإنهم بكل تأكيد جعلوها تبدو عكس ذلك. وكانت جنازة الجاسوس في القاهرة فخمة، حيث زُين النعش بالعلم المصري والنياشين العسكرية لمروان. كما حضر جمال مبارك الجنازة. حتى أن الرئيس المصري أصدر بيانًا قال فيه: “أعتقد بل لا أشك في ولاء ووطنية مروان لمصر وللعروبة”.
لكنه أيضًا ما لم يفعله تسفي زمير، القائد السابق لجهاز الموساد، فقد أخبرني زمير في مقابلة بشقته في تل أبيب رتبها لنا يوري بارجوزيف، أن مروان كان جاسوسًا مخلصًا لصالح الإسرائيليين “من أجل المال ومن أجل ذاته”. ولا يزال زمير وهو في التسعين من عمره تلازمه وساوس وفاة عميله السابق؛ فقد كتب في مذكراته التي تحمل عنوان )بعيون مفتوحة) (With Open Eyes): “لا يمر عليّ يوم واحد بدون أن تعذبني نفسي بسبب التساؤلات حول ما إذا كان في استطاعتي حمايته بشكل أفضل”.
وفي أوقات التحقيقات قالت منى زوجة مروان إنها تعتقد أن عملاء الموساد هم الذين قتلوا زوجها، لكن الأمر لا يبدو محتملًا لسبب واحد، هو أن قتل عميل سابق بعد أن انكشفت هويته قد يبدو عقبة تقف أمام تجنيد عملاء جدد. حتى وإن صدقت إسرائيل أن مروان كان عميلًا مزدوجًا يعمل لصالح المصريين، فمن الأفضل ألا يفعلوا شيئًا، ومن خلال صمتهم هذا يمكنهم أن يلمحوا أنه كان مخلصًا لهم. ومع كل هذا الجدل الدائر حول ماهية الجهة التي عمل لها مروان، نفقد في تلك الأمواج المتلاطمة السؤال الأهم: من كان مروان؟
في أواخر يونيو، بعد ستة أشهر من محاولاتي الأولى للاتصال بعائلة مروان، استقبلت ردًّا من أحمد الابن الأصغر للجاسوس الراحل. (وكان لدى محامي العائلة البريطاني، جون هاردينغ، نسخة من الرد) وافق أحمد على مقابلتي خلال زيارة قام بها إلى لندن قادمًا من منزله بالقاهرة في أوائل شهر يوليو/ تموز. وفي يوم أَحَد من نفس الشهر استقبلت بريدًا إلكترونيًّا بعد منتصف الليل مباشرة يخبرني أن أكون متواجدًا بردهة أحد فنادق غرين بارك في اليوم التالي.
وصلت في الميعاد المحدد، وبعدها بخمس عشرة دقيقة دخل أحمد من الباب الدوار وأومأ لي بالخروج. رجل وسيم وجذاب، وغير حليق اللحية، في الرابعة والأربعين من العمر، ذو صوت رنان من أثر التدخين (يرفع سيجارته، بالتزام فرنسي، من نوع فيليب موريس بين كل جملة مقصودة ليدخنها) جلسنا في الخارج بإحدى المقاهي المجاورة. سحبت هاتفي من جيبي من أجل تسجيل محادثتنا، مع شعوري بالقلق من عدم ظهور أصواتنا بسبب أبواق السيارات والطبول الهوائية المحيطة. فردّ أحمد قائلًا: “أعتقد أن كلينا سوف يسجل هذه المحادثة”، ثم وضع هاتفه بجوار هاتفي.
يتذكر والده دائمًا بصيغة التفضيل، فيقول إن مروان كان “أطيب رجل”، و”أكثر الأشخاص إنسانية”، و”مفعمًا بالحياة”، و”مرحًا للغاية، ولا يفقد أعصابه إلا بصعوبة جدًّا”. كما كان شخصًا “متأنيًا” للغاية. انتقل أحمد مع والده إلى لندن في التاسعة من عمره، قبل عام من اغتيال السادات (وهو على عكس ما ورد بكثير من التقارير). كل ما يتذكره أحمد عن والده في هذه السنوات الأولى من حياته، أنه يسافر ويقرأ كثيرًا. كان أحمد ووالده قريبين للغاية من بعضهما، كانا يتكلمان معظم الأيام، أحيانًا أكثر من مرة. كانا يتحدثان عن كرة القدم. يقول مروان الابن الأصغر: “كان شخصًا حكيمًا، وكنت أستمتع بالحديث معه”.
وكان أحمد في اجتماع بالقاهرة عندما توفي والده. اتصلت به السكرتارية الخاصة به تسأله إن كان على ما يرام، فلم تدرك أنه لم يعرف بعد. أخبرها أحمد أنه في اجتماع وأغلق الهاتف. وفي نهاية الأمر، استقبل رسالة من الأخ الأكبر تقول: “بابي في ذمة الله”. وصل أحمد إلى لندن في السادسة من صباح اليوم التالي.
سألتُه عن حالته العقلية بسبب كل هذا التشوش، وهل أراد أن يعرف ما حدث؟ فرد سريعًا: “نحن نعرف ماذا حدث، فما حدث واضح للغاية”. بدا الرد غريبًا في القضية التي لا تزال مشهورة بعدم وضوحها.
فبادرته بالسؤال: “ماذا حدث؟”، فرد قائلًا: “إنه أمر حتمي أن أكون حريصًا في اختيار كلماتي”، وبعدها بلحظة أضاف قائلاً: “كان هناك تحقيق، وكثير من الأدلة عُرضت في هذا التحقيق، والقاضي قال إنه يرفض فرضية أن والدي أنهى حياته بيديه. وليس ثمة دليل لدعم هذا على الإطلاق، إذن فما لم يحدث يبدو واضحًا”.
استكمل قائلًا: “والآن لكي تتحدث بلسان ما لم يحدث، عليك أن تمتلك عددًا من الأدلة. والطريقة التي تطورت بها الأمور أشارت إلى أنه ليس هناك أي شخص يمكن أن يشار إليه بأصابع الاتهام. لكن ما لم يحدث كان واضحًا، وكان أمرًا هامًا لتسوية القضية. من أجل عقيدتي، وعائلتي، ومن أجل التاريخ أيضًا”.
فقلت له بكل تأكيد معرفة أن والده لم ينتحر يفتح الباب أمام أسئلة جديدة، وهذه الأسئلة تزعجني، فهل وجد السلام مع هذا الغموض؟
رد أحمد قائلًا: “أنا لم أقل أنني في سلام، لكنني قبلت ما حدث، قبلته…”.
تخلل الحديث لحظة صمت صعبة وطويلة، ثم استطرد الحديث: “لقد قبلت حقيقة أن والدي لم يعد هنا، وهو أمر واقع. هل أفتقده؟ نعم. هل أتمنى لو قضينا وقتًا أطول سويًّا؟ نعم. كان صغيرًا، صغيرًا للغاية. لكن هذا ما حدث. ما هو الأمر الآخر الذي يمكننا فعله؟ لن نتمكن من إيجاد اسم لاتهامه بارتكاب الجريمة. في بعض الأوقات ينبغي على المرء أن يتقبل حدود إمكانياته”.
“لماذا تعتقد أنه قتل؟”.
“ينبغي علىّ أن أختار الكلمات…”.
“لماذا؟”.
“لأننا نتحدث عن… انظر، أنا أب ولدي أطفال”.
“هل أنت قلق من أن يحدث تداعيات، حتى الآن؟”.
“دائمًا ما يكون ثمة عواقب لما يفعله أو يقوله الأشخاص، ومع هذا، فإن الأمور تمت تسويتها في المحكمة. تمت تسويتها داخليًّا. تمت تسويتها في المجتمع. التاريخ يكشف فقط، ومن أجل هذا اخترت أن أكون حريصًا”.
“من قتل والدك؟”.
لحظة توقف أخرى تخللت الحديث، ثم رد قائلًا: “شخص رأى أن من مصلحته فعل ذلك، كان لديهم أسباب ليفعلوا ذلك. من السهل النظر للأمر: من هذا الشخص؟ ماذا فعل؟ ثم تجد نفسك في مواجهة جبل من الفرضيات”.
استطرد قائلًا: “وكما يقال، إن لم تستطع رؤية شمس الظهيرة، هذا لأنك لا تريد أن تراها، لكنها موجودة هناك في الأفق”.
* * *
في منتصف المحادثة رن جرس الهاتف، ومنى عبد الناصر كانت هي المتصل، فتوقف تسجيل أحمد، ثم أرسل مكالمة أمه سريعًا إلى البريد الصوتي. وبعدها بقليل اتصلت مرة أخرى، فاعتذر أحمد ورد عليها بالعربية. وقف ثم تمشى حتى نهاية الشارع خارج مدى إنصاتي. جلست متسائلًا عن السبب الذي دفع أحمد لمقابلتي، فأنا صحفي أجنبي. تخيلت أن منى، التي كانت تعرف عن المقابلة بكل تأكيد، كانت تتصل به لتسأله عما إذا كانت الأمور تسير على ما يرام، ولكي تتأكد أنه لم يقل شيئًا قد يعرضهم للخطر. ثم تذكرت شيئًا قد قاله بريغمان منذ عدة أشهر عن إحساس السلام الذي شعر به بعد أن أُفشيت أسراره، فقد قال لي: “أنت في خطر عندما تمتلك المعلومات بداخلك، وبمجرد أن تكشفها فلن تعد ذا أهمية بعد ذلك”، ربما الأمر كذلك.
عندما عاد إلى الطاولة سألته عما إذا تسبب ما حدث في إفساد صورة لندن لديه. فقال إنه حتى وقت قريب كان يرى والده أينما حل: الخياطون الذين يشترون منهم ثيابهم، المتجر الذي كانوا يشترون منه قطع الشيكولاتة، محل البيتزا حيث كان يطلب نفس الطلب في كل مرة، عقود من الزمن تأتي وأخرى تذهب. وبعد ذلك، بدأ الأمر يقل تدريجيًّا كما بدأ فجأة في بداية الأمر، وقال أحمد إنه استطاع أن يجد طريقة لتسوية الأمر مع المدينة عندما زارها. ويضيف قائلًا: “لندن هي لندن، والذكريات هناك. قد أكون حزينًا أنه لم يعد معي، يمكنني أيضًا أن أصبح سعيدًا ومغرمًا بتذكر الأوقات التي قضيناها سويًّا. ثمانية أعوام… إنه وقت كافٍ لأن تندمل الجراح”.
سألته ماذا تعلم من أبيه.
“قال لي ذات مرة: يا أحمد كل شيء تريد معرفته في هذا العالم متاح للعلن، يمكنك فقط أن تنظر وتبحث عنه وتضع النقاط جنبًا إلى جنب. أي شيء وكل شيء تريد معرفته موجود من أجل أن نراه”.
بعد أسابيع قليلة من مقابلة الابن الأصغر لمروان، اتصلت ببريغمان مرة أخرى وسألته لماذا يعتقد أن أحمد كان حريصًا للغاية في كلماته، فأجابني: “لأنه يعتقد أن الحادث كان قتلًا، ومن الأفضل أن يصمت، فالخيار الآخر خطر للغاية، وهذا العالم يبدو قاحلًا إلى أبعد حد”.
استرجعت الإهداء الذي كتبه بريغمان على كتابه الذي أرسله إلى مروان: “إلى بطل مصر”، وبعد فترة من تتبع القضية كان من الصعب ألا أستنتج أن مصر كان لها المكسب الأكبر من وفاة مروان، تمامًا كما كانوا سيخسرون كثيرًا إن ذُكر اعتراف رسمي من مروان في مذكراته أنه كان عميلًا مزدوجًا ضدهم. بالإضافة إلى تلك الأجساد المصرية التي أُلقيت من أعلى أبنية لندن. فموت مروان ما هو إلا حلقة صغيرة في سلسلة نماذج لا يمكن تجاهلها. سألت بريغمان صراحًة عما سيقول ليدحض الصورة التي في ذهني عن أن المصريين لهم يد في موت مروان. فأجابني: “لن أدحضها”.
رد بريغمان على سؤالي الأخير رغم أنه من المفترض أنه يقضي إجازة استرخاء في وايمنغ. الرمزية واضحة، فهذه قصة ستظل تطارد المؤرخ أينما كان. فبعد ثمانية أعوام لا يزال غير قادر على الهروب من الأسئلة، ومع هذا فقد اختار الإجابة، حتى عندما لم يكن لديه إجابات. وبلا شك يعود السبب في ذلك إلى أنها نفس الأسئلة التي ما زال يسألها لنفسه. قال بريغمان: “لا أعرف إن كان مروان قد قُتل بسببي أم لا، ولكني أعرف تمامًا أن الكشف عن جاسوس حي لم تكن فكرة جيدة، لقد كان خطأً كبيرًا”.
وأضاف قائلًا: “لم أسترح من الأمر على الإطلاق”، وقبل أن نودع بعضنا قال لي: “لقد كان الأمر كبيرًا للغاية”.
ترجمة عبد المجيد بريك عن ? Who killed the 20th century's greatest spyللكاتب Simon Parkin