ماساة الحروب والخراب النفسي
ربما أُتخم القارئ العربي تحليلاتٍ، وشبع معها مآسي، تُعرض في وسائل الإعلام هنا وهناك، لقد تبلد حسّ الإنسان، وأصبحت وعود السلام سرابًا، لعَطِشٍ تُنتَزَعُ روحه على رمضاء حربٍ يتجرعها في كلِّ آن، من فلسطين إلى العراق إلى سوريا ولبنان
فهل أصبحت صور المجازر جزء من مخيلة أطفالنا؟ وهل دمار الحروب والمجازر لا يطال إلا الأبدان؟
ربما تداعيات الجروح النفسية والجراح الروحية للشعوب، أشد وطأة على الانسانية من الدمار الشامل.
لطالما خلّفت الحروب آثارا مدمرة على الشعوب العربية وأدت إلى تغيير في ملامح الحضارات عبر العصور، من خلال تدمير الرموز والمعالم الحضارية خلال المعارك، وقد ارتبط التاريخ البشري بالحروب ارتباطًا وثيقًا، حتى أنه يمكن القول ان التاريخ الذي يُدرس في المناهج الدراسية اليوم يكاد ينحصر في تاريخ الحروب والغزوات.
ومع تطور وسائل الاتصال والتطور المخيف لآلة الحرب وتكنولوجياتها المدمرة لم يعد في الإمكان حصرُ الآثار المترتبة عليها في بقعة جغرافية واحدة فالآثار السلبية تطال حتى المُشاهد في مناطق بعيدة عن ساحات القتال والآثار النفسية غالبًا ما تكون عميقة خصوصا عند الأطفال وعند الأسوياء من الناس، لِمَا يشاهدونه من مشاهد تعذيب ودمار وهتك لحرمة الإنسان الجسدية والمادية والمعنوية في البر وفي البحرحيث أمست التداعيات أكثر شدّة على الأصعدة كافة بما فيها النفسية والإيكولوجية والاقتصادية والروحية التي تطال الإنسانيةَ ككل.
وتعاني المجتمعات التي تعيش حروبا مستمرة كما في فلسطين والعراق وسوريا اليوم وبالأمس لبنان من فوبيا تكرار المآسي الإنسانية، وخلال سبر الآراء ميدانيًّا من أفواه المنكوبين او ممن عايشوا المحن، نجد أن معظمهم ألقوا بأنفسهم في اليم غرقا حيث لا يوجد مسئول واحدا مقتنع بجدوى المساعي السياسية، فحتى في حالة السلم المؤقته مازال المواطن العربي يعيش ضمنيا حالة ترقب العدوان.
ونجد أن مقدمات الحالات النفسية المرتبطة بالعدوان تبدأ في الظهور حتى قبل عملية القصف او الغارات، فغالبًا ما يرافق التحذير والإشاعات التي ترمى أثناء الحروب حالات ذعر عند الأفراد، ومجرد سماع صوت الطائرات الاستطلاعية ممكن أن يولد القلق والتوتر يصاحبه فترة الانتظار والترقب، ومن الأعراض النفسية التي تنشأ عن ذلك الضجر والعصبية الزائدة، ومشاعر الخوف والرهبة، كما تظهر الكثير من الأعراض المرضية مثل الرعدة والغثيان وخفقان القلب واضطراب النوم والصداع والهزال.
وكل هذه الاضطرابات نتيجة للحالة الانفعالية في فترة الانتظار حيث يعمد الأهالي اما للنزوح السريع من شدة الخوف او التحضير السريع وتأمين ضروريات الحياة الأساسية، وتشير الدراسات أن طول هذه الفترة والتي قاربت من الخمس سنوات تحت تهديد هجوم متوقع للعدو او احتمال التعرض لغارات جوية له تأثير سيئ جدا على الأطفال خصوصًا من هم في اعمار الثامنة وحتى الرابعة عشر.
ويكفي أن نعلم أن 25% من الإصابات التي يتم إجلائها،هي حالات هلع وذعر، بمعني ان حالة واحدة بين كل أربع إصابات يتم إخلاؤها أثناء القصف يحتاج إلي التدخل العاجل، كما ان 30 % من القتلى ومن الإصابات البالغة هي لأطفال دون الثانية عشر من العمر.
أما الاصابات النفسية أثناء الحروب فإنه للأسف لايتم تسليط الضوء عليها في المستشفيات، علمًا أنها تُسجل الكثير من الإصابات النفسية، لان الإصابات المباشرة هي التي تحظى بالاهتمام وفي العراق وسوريا فإن الاصابات المباشرة فاقت كل التوقعات والمستشفيات اصبحت عاجزة عن استيعاب المصابين بها ومن الحالات المسجلة: الشلل الهستيري، أزمات تنفس خانقة نتيجة للتوتر النفسي، زيادة معدل الإرهاب والعنف، وتبلد المشاعر والفزع والذهول.
كلها أعراض تصنف تحت حالة اضطراب ضغوط الصدمة التي تعرف اختصارا بالحروف "بى تى إس دى"، وتسبب اختلال الاتزان النفسي والإدراك والتفكير، وفقدان الشخص للسيطرة علي انفعاله، فيظل في حالة ذهول ورعب، ويستعيد مشاهد القتال الرهيبة ولا يقوى علي التركيز أو الاستجابة للمحيطين به، ولا يستطيع النوم من هول الكوابيس المزعجة رغم ابتعاده عن أماكن القتال.
وتشكل نسبة اضطراب ما بعد الصدمة ما بين 60 الى 80 % في الأطفال في فلسطين ويتوقع أن تكون أكثر من ذلك في العراق وسوريا مع غياب الاحصاءات للحالات النفسية، لانه ليس بالضرورة أن يتعرض الانسان بنفسه للماسي، ولكن يكفي مشاهدة النيل من الأقرباء مثل الأب أو الأخ، أو تعرض لأنواع الإهانة الذاتية الشديدة التي تؤثرعلى كبرياء الانسان،وهناك ثلاثة اعراض مهمة لاضطرابات ما بعد الصدمة منها: أن الإنسان يحدث له استرجاع لأحداث المؤلمة، وكوابيس ليلية وأحلام يقظة تشملها الصور الخاصة بالمجازر أو بمشاهد العنف، كما يحاول الانسان تجنب أي صورة أو فكرة أو شيء يذكره بهذا الحدث المفجع.
فغالبا ما يتذكر المريض الحدث باستمرار بحيث يحدث تجميع للأفكار داخل مخه في هيئة صورة أو فكرة او أدراك ويتكرر ذلك بصفة مستمرة، كما أنها تحدث تنميلا وتبليدًا في عواطفه ويعني هذا أن كل احساساته يكون فيها نوع من اللامبالاة والتنميل وبالتالي فانه يتجنب الجلوس مع الناس والحديث عن هذا الموضوع، كما انه يتجنب كل نشاط أو مكان أو أناس يكون لهم علاقة بهذا الحدث، فهذا المريض يشعر بأنه أنفصل عن المجتمع وإحساسه بالحب والعاطفة تتجمد فهو لا يرى أي شكل للمستقبل والماضي والحاضر، فهو يعيش داخل الحادث فقط.
والآثار النفسية السلبية تؤذي الأطفال أكثر من الناضجين لأنها تصيب المخ بحساسية وتغيرات في نسيجه، وتشير الدراسات النفسية إلى أن 80% يتعرضون الى صدمات منهم 8% يصابون بالاضطرابات ما بعد الصدمة، ووجد أن الانسان عندما يتعرض الى كرب يحدث تغيرات كثيرة للجهاز العصبي، والهرموني، وتفرز هرمونات خاصة بالكورتيزون الذي يسبب اذا استمر الكرب ضمورا في الخلايا العصبية في مراكز المخ المسئولة عن المزاج والتعلم والذاكرة والتوافق مع كروب الحياة فيصبح الانسان مهلكا بشكل شديد.
ويكفي أن نشير أن الولايات المتحدة رصدت مبلغ 200 مليار دولار أمريكي للحرب الأخيرة على العراق وتناست سوريا في الوقت الحالي هذا وفي وقت يعيش حوالي 300 مليون إنسان تحت خط الفقر في أفريقيا، فمهما كانت دوافع الحروب وأهدافها تبقى مدمرة، كما تؤدي ال عواقب نفسية تطال الأجيال الحالية واللاحقة.
وأخيرا يبقى القدر المشترك لجميع الشعوب العربية المنكوبة على وجه الأرض، القدر الأول والأخير هو أننا ننتمي الى بني البشر, وكائنات تُوصف بالإنسان، وقدرنا أننا نعيش في منطقة توصف بالساخنة، ومن حقنا كبقية بني البشر أن نحيا بسلام، ومن حق الكائن ان يشعر بأمان، سنقاوم الظلم نعم، وسنواجه العنف نعم، سندافع عن الإنسان أينما كان، سنحمي أشكال الحياة، سنقاوم الهمجية بالحياة، ربما بالحب وبقلب كبير، كي لا ينسى لحظة انه إنسان سواء ان في سوريا ام العراق او ليبيا أو فلسطين المحتلة...