تعثر اقتصادي هو الأول من نوعه في السعودية، أكبر منتج ومصدر واحتياطي نفطي في العالم، الدولة التي يُعد اقتصادها الأقوى بين الدول العربية، أمست عليها 2015 بعجز اقتصادي بلغ مستويات قياسية بنحو 98 مليار دولار، وفي الخلفية يطل انهيار أسعار النفط بأكثر من 65%، ليصبح عماد الاقتصاد السعودي الذي يشكل أكثر من 90% من واردات المملكة غير كافي لسداد مصروفات المملكة التي تتزايد بشكل جنوني منذ بداية العام الماضي بالعطايا الملكية التي أغدقها الملك سلمان عند توليته العرش، بالإضافة إلى عشرات المليارات التي تنفقها الرياض لدعم الحلفاء المتعثرين، وأخيراً الحرب على اليمن التي تكلف خزانة السعودية بحسب أرقام وإحصائيات رسمية عن تكلفة الحرب حوالي مليار دولار كل شهر، بالإضافة للإنفاق الموازي من أجل التراص الإقليمي حسب البوصلة السياسية للرياض سواء في اليمن أو غيرها. ليضع هذا كله اقتصاد المملكة في مهب الريح في المستقبل متوسط وبعيد المدى.
هذا التعثر الاقتصادي يعد منطقياً في مسلسل التخبط الناتج عن الصراعات داخل البيت السعودي الذي يُعد تفسيراً لكثير من الأحداث في المملكة وخارجها في الأعوام الثلاث الأخيرة، وهي الصراعات التي ما لبثت أن بدأت مرحلتها الثانية بعد انتهاء التكهنات بمستقبل المملكة بعد وفاة الملك السابق بما حدث في بداية العام الحالي من ما أصطلح عليه إعلامياً ب”الانقلاب السديري”، الذي كان نجمه الأبرز هو الأمير محمد بن سلمان، الذي أصبح في غضون أسابيع قليلة وليِّ وليِّ العهد، ووزير الدفاع، بعدما كان قبل سنوات قليلة أمير له نشاطات محدودة إدارياً واقتصادياً داخل السعودية، إلى أن أصبح رئيس ديوان ولي العهد إبان تولي والده الملك الحالي، سلمان بن عبد العزيز لهذا المنصب، وبعد أن أصبح الأخير ملكاً أصبح محمد وزيراً للدفاع شُنت من أجل إثبات جدارته حرب راح ضحيتها الآلاف، ثم بعد عزل مقرن بن عبد العزيز من ولاية العهد وتولية الأمير القوي محمد بن نايف مكانه، نال بن سلمان منصب وليِّ وليِّ العهد؛ هذا كله في فترة قصيرة زمنياً لشاب يبلغ من العمر 30 عام، والذي ينظر له الساسة والمراقبون حول العالم أنه اللاعب الأهم -بحكم الواقع لا القدرات- بين أمراء آل سعود، متفوقاً حتى على بن نايف، الذي جُرد من صلاحيات داخلية وخارجية كانت تولى دائماً لوليِّ عهد المملكة لصالح بن سلمان.
مملكة الارتجال
وبخلاف التعثر الاقتصادي، فإن الارتجال العشوائي هو السمة الرئيسية للمملكة منذ تولي سلمان ونجله الحكم- يُعتقد على نطاق واسع بأن الملك (80عام) يعاني من مشاكل صحية عقلية وجسدية بينها مرض الخَرف الذهني-سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، والأخيرة بالذات تتجلى فيها هذه العشوائية كمنهج سلكته السياسة السعودية منذ العام الماضي، سواء فيما يتعلق باستئثار المملكة بقرار مجلس التعاون الخليجي، أو التوترات التي سادت العلاقة بينها وبين حلفائها وتحول هذه العلاقة بإرادة الرياض إلى من علاقة تحالف إلى تابع ومتبوع، كما ظهر هذا في تحالف “عاصفة الحزم” ومهزلة “التحالف الإسلامي” وكل ما يتعلق بالأزمة السورية وأخيراً “سَعودة” الجامعة العربية وجعلها مُلحقة بوزارة الخارجية السعودية في الأزمة الأخيرة مع إيران التي اندلعت عقب إعدام الشيخ نمر النمر، وهي الأزمة التي تجلى فيها تطور هام في السياسة السعودية، انتقلت به من الارتجال العشوائي إلى استحداث فوضى خلاقة الغرض منها قلب الطاولة على الترتيبات السياسية في المنطقة التي تُعد من جانب المجتمع الدولي لمختلف الملفات وفي القلب منها الأزمة السورية، وهي الترتيبات التي رأت فيها الرياض أنها على غير هواها ومصلحتها، وسط سحب واشنطن لأيديها الداعمة المعهودة للسياسة السعودية، ومن ثم كان إحداث الفوضى الأخيرة يأتي كمسعى أخير للفت الانتباه ومحاولة إظهار أن المملكة قادرة على قيادة اللعبة السياسية بمفردها دون الحاجة إلى واشنطن، وفرضها لشروط تحسن من موقفها المتعثر.
داخلياً، تظل هذه صراعات الحكم المزمنة داخل البيت السعودي، يُضاف عليها التحديات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، التي جعلت مسألة التكهن بمن يكون ملك السعودية القادم تتكرر كل عام جديد، وهو مؤشر يعده مراقبون الأهم والأوضح على مدى الأزمة التي تعاني منها المملكة والتي تقترب أن تكون أزمة وجودية تتعلق بمستقبل استمرار المملكة بشكلها المعهود.
وسط هذا كله أصبح محمد بن سلمان في مركز دائرة الضوء، فالأيام الماضية شهدت اهتمام لافت من الصحافة الدولية بشخص الأمير الشاب ورؤيته لمختلف القضايا والتحديات التي تواجهها بلاده في الداخل والخارج، وبعيداً عن مدى تدرج الآراء بشأنه بين من رأى فيه أنه متغطرس وساذج وبين أنه أخطر رجل في العالم حالياً، فإن الملاحظ أن هذا الاهتمام الإعلامي والذي يعكس اهتمام سياسي إقليمي ودولي ينظر لهذا الأمير على أنه الملك القادم، إن لم يكن هو الحاكم الفعلي للمملكة، خاصة وأنه على سبيل المثال لا الحصر تحدث بهذه الصيغة في حواره المطول مع صحيفة “ذي إيكونوميست” البريطانية، سواء فيما يتعلق بمستقبل سياسيات بلاده الخارجية أو الداخلية، وفي القلب منها “الإصلاح الاقتصادي” بعيد المدى، والذي حسبما تحدث عنه يقلب الصورة المعهودة عن اقتصاد السعودية الريعي وتوزيع الثروات وما لذلك علاقة بشكل “العقد الاجتماعي” بين آل سعود وسكان المملكة وقبائلها.
العبث بمثلث الحكم
قدم بن سلمان رؤيته مؤخراً، سواء من خلال أحاديثه مع الصحافة، أو من خلال المؤسسات الإعلامية التي سيطر عليها بشكل مباشر وأخرها قناة “العربية”؛ الأمير الشاب يمتلك رؤية جريئة لهيكلة الاقتصاد السعودي، تماثل ما فعلته كل من الولايات المتحدة وبريطانيا أواخر الثمانينيات، إبان عهد رونالد ريجان ومارجريت تاتشر، والأخيرة نعت بها الأمير رؤيته الاقتصادية في المستقبل للمملكة، واصفاً إياها بـ”التاتشرية”، وهي تعني إجمالاً إطلاق يد القطاع الخاص والعمل بآليات السوق وخفض العمالة والإنفاق الاجتماعي والدعم بكافة أشكاله، وهي سياسة قد يختلف ويتفق عليها الجميع في مختلف بلدان العالم؛ إلا أنها تعني للسعودية التعرض لخطر الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
المملكة التي استمرت على أساس العقد الاجتماعي/السياسي القائم بين آل سعود وبين مختلف قبائل السعودية، كان جوهره بدائي بسيط ينتمي إلى العصور الوسطى، ومفاده حكم مطلق مقابل عطايا وتوزيع ريع المملكة على القبائل والمواطنين، سواء كان ذلك يتعلق بالمزايا المعيشية للمواطن السعودي، أو ما يتعلق بمستوى التحديث الاقتصادي الثابت عند آليات الاقتصاد الريعي البدائية، ولذلك شهد عِقد الثمانينيات، الذي شهد ذروة سياسات الإصلاح الاقتصادي على النمط السابق ذكره في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول، رفض السعودية لأي مساس بالمزايا الاقتصادية والاجتماعية بالمواطن السعودي، على الرغم من أن وقتها شهد انهيار يكاد يماثل الموجود حالياً في أسعار النفط، وكذلك مستويات عجز الموازنات إبان هذه العِقد والذي تلاه، وتراكم الديون الداخلية والخارجية نتيجة لتصميم الملك فهد وقتها أن لا يمس الإنفاق الاجتماعي –الرشوة الاجتماعية في أدبيات اليسار- الذي يُعد الضلع الثالث بعد الدعوة الوهابية والحكم لآل سعود في مثلث قيام الدولة السعودية الثالثة.
في ديسمبر الماضي أعدت شركة “ماكنزي”، وهي مؤسسة رائدة في مجالات الاستشارات وإعداد الدراسات والخطط الاقتصادية للشركات والحكومات، دراسة و”روشتة” إصلاح لاقتصاد المملكة جوهرها إيقاف الإنفاق الاجتماعي والدعم، تقليص تدخل الحكومة في الاقتصاد، خصخصة المؤسسات الاقتصادية الحكومية ناجحة ومتعثرة على حد سواء، وإذا لم تنفذ خطة إنقاذ اقتصادي عاجلة تضمن تحقيق السابق فإن المملكة ستعاني من عجز تراكمي في 2030 يقدر بـ2 تريليون دولار، وذلك لسبب بديهي وهو أن النفط هو المصدر الوحيد للدخل في السعودية، وأسعاره حالياً في الحضيض، ومع ذلك لم يجعل ذلك المملكة ترشد إنفاقها المالي المتضخم باطراد، والذي على سبيل المثال يذهب معظمه في هيئة رواتب ومنح لأمراء العائلة المالكة بالإضافة إلى الدعم والإنفاق العام.
مستقبل الحكم بعد سلمان
إذا نظرنا إلى فحوى أحاديث بن سلمان للأعلام مؤخراً، وتوجهات الإعلام السعودي عموماً نجد أنها تدور حول السطور السابقة فيما يخص التحديات الاقتصادية، والتي تفترض أن يتم إعادة هيكلة على مستوى المستقبل القريب والمتوسط والبعيد لاقتصاد المملكة، وهو الأمر الذي عادة ما يكون قرار للملك السعودي في مثل هكذا دولة، ولكن الواقع يقول أن بن سلمان يحل محل الملك في هذه القرارات المصيرية، بما فيها مثلاً قراره بخصخصة شركة “آرامكو” للنفط وطرح أسهمها في البورصة للشراء، وهي الشركة الأكبر على مستوى العالم والتي تنتج حوالي 13% من إجمالي احتياج العالم من النفط، مما يجعلها الشركة الأعلى قيمة على مستوى العالم أيضاً، وهذا الأمر كله يعد دلالة على مدى تغول دور محمد بن سلمان ونفوذه الذي يوازي إن لم يكن يفوق نفوذ الملك وبالطبع ولي العهد.
ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد بالنسبة لبن سلمان، ولكنه أيضاً ينفرد بمثل هكذا قرارات مصيرية لا تتعلق فقط بالاقتصاد وإدارة المملكة ولكن أيضاً بمستقبلها وأسس الحكم فيها، وهو الأمر الذي كان يفعله الملوك السابقين على نحو رشيد، بما فيهم الملك عبدالله الذي استحدث آليات تجعل مشاركة أمراء البيت الحاكم ضرورية حتى وإن كانت مشاركة غير مُفعله عند اتخاذ قرارات تتعلق بأمور مصيرية مثل انتقال الحكم، فخرجت “هيئة البيعة” إلى الوجود، ولكن بن سلمان هنا لا يبدو أنه يلتفت إلى باقي العائلة ويحصر الحكم في أضيق نطاق أسري حدوده هو ووالده، وهذا في ظل كل ما يعتري البيت السعودي من انقسامات نتجت عن صراعات الحكم على مدار السنوات القليلة الماضية، وفي وقت تزداد فيه نبرة التذمر من أسلوب الملك ونجله، ناهيك عن أنه على سبيل المثال لا الحصر الرؤية التي يقدمها بن سلمان لمستقبل المملكة تمس امتيازات أمراء آل سعود سواء في السلطة أو الثروة.
كمحصلة عامة، هناك شك أن يكون لابن سلمان القدرة أو الخبرة لإنفاذ ما يريد، فالأمير الشاب أخفق على مدار العام السابق في إدارة التحديات التي واجهت المملكة، سواء في الداخل والخارج، بما في ذلك العدوان على اليمن الذي شُن كحملة دعاية دموية تثبت جدارته وكونه رقم مهم في معادلة السياسة الإقليمية والدولية. والسؤال هنا ما هي أوراق القوة التي تجعل بن سلمان يستمر في ارتجاله العشوائي داخلياً وخارجياً حتى بما يتجاوز اللحظة الحالية إلى مستقبل السعودية؟ الإجابة أن ورقة القوة الأكثر ربحاً وتأثيراً هي وحيدة من نوعها، تتلخص في العلاقة بين الأمير وأبيه الملك، وهي المؤهل الوحيد الذي نقل أمير شاب من ساحات المضاربات العقارية في عشرينيات عمره إلى الارتجال والمضاربة بمستقبل المملكة في بدايات عِقد الثالث بدافع من طموح متعجل دفع بتكهنات تقول بأنه الملك القادم للمملكة، ولكن على أي مُلك قد يكون؟ هذا يرتهن بمجريات الأحداث داخل المملكة وداخل آل سعود في المستقبل القريب.