للاسف الشديد يعيش الكثير من الشباب المثقف في دول العالم العربي في وهم حول الغرب و ما آلت إليه مناهجهم في التعامل مع الحياة. الكثير يقرأ عنهم ويرى التقدم العلمي والعملي وما صدر عنهم من موثوقات في حقوق الإنسان وحقوق المرأة والمساواة بين البشر واحترامهم للقوانين وتطبيق الديموقراطية في دولهم وعدم وجود الكذب والخداع في التعامل بينهم وحرية المرء في التعبير من غير التخوف من المحاكمة أو القمع بسبب أن الآراء التي يعبر عنها تعتبر مخالفة لما يعتقده الأغلبية او سياسات الحزب الحاكم او الحاكم , حينما تقترن هذه الميزات برفض المجتمع والفرد الغربي للدين وإنكارهم لوجود إله خالق لهذا الكون ومدبر لأموره، يبدأ الشاب العربي المسلم بالتساؤل الذي له الحق فيه: هل هناك بالفعل ارتباط بين التقدم والازدهار الحضاري وبين ترك الإيمان بوجود الله؟
بعد ذلك يأخذ بقراءة كتب الفلاسفة والعلماء في الغرب أمثال نيتشه وجون لوك وبيرتراند ريسل وفرانسيس بيكون وغيرهم ممن كانوا يؤمنون بمنطق الوجودية الفلسفي، مما يقوده للنظر في تاريخهم الذي كان مظلما في عهد الإيمان كما يسمونه وبدأ بالتقدم والانطلاق الذي أوصله إلى ما هو عليه الآن بعد أن تخلصوا من قيود الدين والتدين والكنيسة كما يقولون. قد يكون في قول هؤلاء الفلاسفة بعض الحقيقة لأن تاريخهم يشهد بالعداء الذي نصبته الكنيسة تجاه العلماء التجريبيين الذين كانوا يأتون بما يناقض ما يقوله الكتاب المقدس عن الطبيعة والكون فكان البابا في تلك العصور يأمر بحبس هؤلاء العلماء الذين سماهم بالزنادقة وعقابهم لما كان يقولون , لان الكنيسة تتعامل من منطلق ديني بحت ولن تسمح بما يخالف تعاليم الكتاب المقدس , ومن غير المعقول ان يأتي من يلحد او ينكر وجود الله باسم الطبيعة وتساندة الكنيسة , و لم تستمر هذه الفترة من قمع الكنيسة لهؤلاء الزنادقة طويلا، فبعد تراكم أخبار صدق بعض ما وصل إليه علماء الطبيعة في وصفهم للأشياء على أرض الواقع قام هؤلاء المفكرين بانتهاز الفرصة لتأكيد نظرياتهم , وتأكيد استخفافهم بأن كل مخلوق اصله الي الله , وهدا كان مبدأ الكنيسة حينداك, الا ان هؤلاء العلماء تمكنوا من ابهار الناس بالنتائج المتتالية علميا ، وخسرت الكنيسة سلطتها السياسية ومكانتها الدينية وبدأ الإلحاد يظهر رأسه شامخا ليكون ندا لما يدعوه الملاحدة بالخرافات الدينية , وهنا يجب ان ننوه الي ان الالحاد لم يعش طويلا بل استطاعت الكنيسة ثانية في تعديل منهجها علي الصعيد السياسي واصبحت الكنيسة مرجعا للعلم المدعوم بالتدين والسماحة والمحبة كما اشار الكتاب المقدس .
يجب على كل من يقرأ أي شيء يصدر من أي فيلسوف أو مفكر غربي أن يكون متيقظا لحقيقة يضعها نصب عينيه: أن تفكير هذا الكاتب قد يكون تفكيره من منطلق ايمانه الشخصي بعقيدة معينة او عدم ايمانه بدين اصلا من منطلق محاربة الدين للفكر والعلم. وقد يكون هناك حقائق كثيرة لما يقولونه عن محاربة الدين للفكر والعلم والتقدم وما إلى ذلك، ولكن الكثير من الباحثين والمحققين الغربيين كشفوا عن السطحية وعدم وجود المنهجية العلمية في ما وصل إليه هؤلاء الفلاسفة والمفكرين في علاقة الدين بالتقدم العلمي الذي نجده الآن في الغرب بسبب العلماء واصحاب الرسالة العلمية واغلبهم لايتطرق الي موضوع الدين , و ما يجب أن يشار إليه أيضا أنه ليس من المنطق أن نحكم نحن العرب على ما نجده الآن في بلادنا بنفس المعايير التي حكم عليها الغرب على أنفسهم، فعلى سبيل المثال، لن تجد في التاريخ االعربي من سجن أو قتل لأنه كان ينشر ما كان يستنتجه في بحثه العلمي وهدا لان معطم الابحاث كانت في النهاية تؤكد قدرة الله كخالق للوجود وليس مثلا تطبيقيا لنظرية سارتر او كانت عن الانا والوجودية .
بالتأكيد هناك لدينا معضلات في مجتماعتنا العربية ومن الواجب علينا كجيل جديد له طموح إلى الأفضل أن نعمل على مواجهة هذه الصعوبات والتعامل معها بطريقة صحيحة ومنهجية علمية. ما لا يراه الذين انبهروا بالتقدم الغربي والازدهار الحضاري الذي يبدو للذين لا يعيشون في وسط مجتمعاته على أنه في قمة ما وصلت إليه البشرية، هو أن هذا التقدم مادي بحت وجاء على حساب إنسانية البشر احيانا وعبر حقبات من الزمن البعيد عن الرحمة. لا حاجة لنا أن نرى إلى أبعد مما تقوله الإحصائيات الغربية عن نسبة عدد الحالات النفسية والانهيار العصبي والاكتئاب المزمن بينهم الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى الانتحار. كيف يكون لإنسان أن ينهي حياته وهو لا ينقصه شيء من الماديات البحتة؟
كانت هناك دراسة أجرتها جامعة أمريكية لتبحث مدى تأثير الصمت وعدم وجود الصخب على الإنسان. في هذه الدراسة أخذوا كل من المتطوعين ووضعوه في غرفة فارغة من كل الأثاث والصور ولم تكن هناك أي نوع من الموسيقى أو تلفاز أو المجلات للتسلية، وقالوا له أن يمضي وقته في التأمل. العجيب أنه بعد فترة قصيرة ٨٥٪ من هؤلاء المتطوعين جاءهم انهيار عصبي بالرغم من أنه لم يكن أحد منهم يعاني من أي حالة نفسية أو اكتئاب مزمن. حينما بحث العلماء السبب وراء هذا الانهيار العصبي، وجدوأ أن المجتمع مليء بالصخب والطرق المتعددة لإشغال المرء عن أي فرصة للتأمل، وما حدث مع المتطوعين أنها كانت أول فرصة أتيحت لهم في حياتهم لينظروا في أسباب وجودهم ودوافعهم للذي يقومون به وما يقودهم للعيش وما إلى ذلك من الأسئلة الوجودية التي لا إجابة شافية وكافية لها لمن يعيش حياته بمادية بحتة. هذه هي الأسئلة التي لا يستطيع الإنسان التخلص منها ولا تستطيع الحضارة الغربية الإجابة عليها
أدرك تماما أن من يريد التخلص من الدين ويرى أن الإلحاد هو الاستنتاج المنطقي لكل من فكر في وجود الله سيقول أني لم أبرز أي حجة منطقية لإثبات وجود الله هنا. هذا لم يكن هدفي . ما أردت أن أبينه هنا هو خطأ في ربط المسببات ببعضها وهو خطأ منطقي في ذاته، وتبيين نتيجة الإلحاد المادية التي لا يراها من يركز على الظاهر ولم يبحث في ما وراءه. بالنسبة لما نجده في بلادنا العربية من تراجع حضاري، فهذا ليس سببه التدين.