قراءة الحراك الدبلوماسي الروسي فيما يخص الملف السوري في المرحلة الحالية التي تتصف بالزخم، لابد لها وأن تكون قراءة متأنية بالاشتغال على التفاصيل الصغيرة التي قد لا تكون مهمة في عيون البعض، فأن يلتقي وزير الخارجية الروسي مع أحمد معاذ الخطيب الإخواني التوجه والذي يناور بتبعيته ما بين السعودية وقطر، ومن ثم يلتقي بخالد الخوجة الحامل للجنسية التركية والذي أنزل تسلمه رئاسة الائتلاف الغضب السعودي على الائتلاف ودفع العجلة السعودية نحو تجميع هوامش المعارضة في مؤتمر القاهرة بدعم من الأمريكيين ورعاية صورية من الحكومة المصرية، ولعل في لقاء لافروف بهيثم مناع، استمالة للقطب الثالث في المعارضة الخارجية، فتيار قمح الذي مازال رطباً، غير قابل للحصاد من وجهة نظر كل القوى الداعمة للمعارضات، لابد له وأن يبلور حضوره، حتى وإن كان من خلال مواقف غير مرضية بالنسبة للأطراف الداعمة.
وإن كان الروس قد تمكنوا من جلب هذه الدمى إلى دائرة الضوء التي يرغبون بها على مسرح الأحداث السورية، فهذا يعني إن موسكو أمسكت بالخيوط التي تحرك هذه الدمى، وبالتالي لابد من تلمس المعطيات التي استند إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بطرح معجزته لتشكيل تحالف ضد الإرهاب، وإن كان السعوديون قد تجرؤا على توجيه تهديد للرئيس السوري بشار الأسد خصوصاً، ولسوريا عموماً، في عودة منهم لخانة العداء المطلق بعدما حاولوا ترتطيب الأجواء ببعض من التلفيقات الإعلامية، والتسريبات التي بنيت على أساس خيال سعودي ضحل، فإن الرد الروسي يأتي من خلال ما أكدته وكالة سبونتيك الروسية، بأن موسكو زودت سلاح الجو السوري بعدد من طائرات الـ (ميغ -31)، وصواريخ مضادة للدبابات تضاهي التاو الأمريكي قدرة وتقنية، ومدفعية ميدان من طراز (130 مم)، وهو رد واضح إن سوريا خط أحمر عريض بالنسبة للروس.
وبالعودة إلى لقاءات لافروف برجالات المعارضات الخارجية، يمكن استقراء ماهية الخطوط الحمر التي فرضها الروس على هؤلاء أثناء مناقشة الملف السوري، فبرغم التصريحات السعودية التي كان يفترض أن يشد المعارضون أزرهم بها، للاستمرار بطرح مسألة تنحي الرئيس الأسد، وتسليم السلطة في سوريا إلى ما يسمونه بـ (هيئة الحكم الانتقالي) التي يريدونها، إلا أن الخوجة لم يجرؤ على طرح هذا الملف أثناء اجتماعه بلافروف، والدليل على ذلك تصريح الخوجة الذي قال فيه ما حرفيته (اتفقنا مع القيادة الروسية على الاستمرار في المشاورات واللقاءات لإيجاد حل عادل في سوريا يحافظ على استقرار المنطقة، ولم نتطرق خلال المباحثات إلى بدائل للأسد)، انتهى الاقتباس.
هذا الكلام يعني إن الروس لا يناقشون ما يؤمن بشرعيته الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فالأخير كان قد أكد أكثر من مرة على إن السيادة السورية والقرار الشعبي السوري ملك للشعب السوري وحده، وإنه تابع بشكل شخصي نزاهة الانتخابات الرئاسية السورية الأخيرة.
ويبدو إن المناع ( القريب من الأوروبيين والذي مول حقل ( قمحه) من السعوديين وبذره في صفوف المعارضين في العاصمة المصرية، إثر خلافات أقل ما يقال عنها صبيانية، ولا تليق بمن يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان والذهاب نحو دولة تعددية (وفق تعبيراته)، يبدو إنه حضر إلى موسكو، ليعزز مكانة (جماعة القاهرة) في المشهد السوري، وليقرر أن يذهب بتياره السياسي (قمح) نحو طاولة الحوار، ليكون له مكانة في ناتج الحوار (السوري - السوري) إذا ما تم سواء في موسكو أو جنيف، ولا يمكن القبول بأن مناع ومن معه ذهبوا إلى موسكو من تلقاء أنفسهم، وإلا سيكونو من الحماقة بمكان أنهم يقامرون بالتمويل الضامن لبقاءهم على الساحة السياسية، وهو في ذلك يتقاسم الحال مع كل من الخطيب والخوجة، وأي من المعارضات التي كانت ترفض الذهاب إلى موسكو، وتوجه المناع والخوجة إلى موسكو، ولقاء لافروف مع الخطيب في الدوحة، يعني أن الأطراف الموولة للإئتلاف والإخوان وجماعة القاهرة، بدأت تميل بشكل واضح نحو ضرورة الإنصات إلى الرأي الروسي لحل الأزمة السورية، فلدى موسكو ما ستطرحه كمخرج للأزمة السورية لكل الأطراف، وطرحه على الطاولة بشكله النهائي سيكون قريباً.
ولأن الأسد، هو الضامن الحقيقي (من وجهة نظر الروس)، لبقاء سوريا على شكلها الحالي جغرافياً، وضمن التحالفات الصحيحة الضامنة للقرار السيادي السوري واستقلاليته على المستوى السياسي، يرى الروس إنه الشريك الأفضل، لإيجاد حل للأزمة السورية، بكونه أبقى على الجيش السوري في طريق واضح البوصلة، فلم نسمع يوماً عن إسناد الجيش السوري لأي من الفصائل المسلحة في أي منطقة من سوريا خلال اشتباكها مع فصيل مسلح آخر، ولا حتى داعش، بمعنى إنه لم يذهب نحو البحث عن تحالفات مع أي من الميليشيات المسلحة مقابل بقائه في السلطة، مع إنه كان ومايزال قادرا على استمالة المسلحين في هذا الفصيل أو ذاك بتقديم المال والسلاح ومنح المراتب السلطوية لقادتهم، مقابل انخراطهم في معارك ضد فصائل أخرى، فدمشق التي تراهن على استمداد الشرعية من الشارع السوري لا غير، لا تعول على التحالف مع الإرهاب، أياً كانت الأسباب، وهذا يدلل بشكل واضح على إن الأسد ليس باحثاً عن سلطة، وإنما مدافعاً عن أمة، ويقود فريق يؤمن بهذه المعركة على المستويات السياسية والعسكرية والشعبية.
من جهة أخرى وأكثر أهمية، يمكن القول إن لقاءات لافروف بكل من الخطيب و الخوجة و مناع، على اختلاف ميل من هؤلاء الثلاثة فكريا وتبعية، تؤدي إلى فهم مفاده، أن الزخم السياسي، والدبلوماسي الكبير الذي تقوم به الحكومة الروسية لإعادة الهدوء إلى منطقة الشرق الأوسط، سيثمر لا ريب في ذلك، فالعالم من بعد الاتفاق النووي بدأ يميل إلى مرحلة من الهدوء وإن كانت مؤقتة في كل الشرق الأوسط لإنتاج زمن اقتصادي ينقذ الجميع من أزمة اقتصادية كبرى، فالسعودية تبحث عما يسد العجز في موازنتها، ولم تعد قادرة على تحمل ضخ المزيد من النفط لخفض أسعاره للتلاعب بالسياسة الدولية، والأمريكيون يفهمون ذلك، ويمكن القول إن راعي البقر الأمريكي الذي دفع قطعانه التكفيرية إلى الساحة السورية، قرر أن ينزل عن الحمار (الموولين) ليلتقط هذا الحمار أنفاسه، إذ أن تقسيم المنطقة في المرحلة الحالية مستحيل، ولابد من فترة راحة وإعادة هيكلة المشروع والذهاب نحوه مرة أخرى.
ولابد للأمريكيين من الاعتراف بأن المفاتيح الروسية التي فكت أقفال العديد من الأبواب الموصدة في الملف السوري من خلال الحراك المستمر سياسياً، ستصل إلى شكل لبقية المفاتيح التي ستفك كل الأبواب المتبقية، فصانع المفاتيح الروسي يعمل بكد، وهذا سيؤدي إلى تبدل في شكل المنطقة بما لايعجب الأمريكيين إن بقيوا مصيرين على تنفيذ مشروعهم، لكن واشنطن وإن كانت ترمي إلى الحل وتؤمن بضرورته بغض النظر عن "المعوقات الأردوغانية"، وبغض النظر عن "بعبعات آل سعود"، ترى إدراة البيت الأبيض، أنه لا ضير من المماطلة قليلاً، لكسب المزيد من الوقت علها تصل إلى مكتسبات ترضيها، وتستطيع أن ترمي من خلالها الفتات إلى الأطراف التي ساندت ومولت مشروعها، لكن العين الأمريكية، ترى جيداً الخط الأحمر العريض الذي تضعه روسيا وحلفاء سوريا على المستوى الإقليمي والدولي، حول سوريا، والقرار السيادي السوري، وتعتبر أن الأسد شريك أساسي في محاربة الإرهاب.
عربي برس