الاعلامي عماد قلعجي... بين رفع الأسعار وتخفيض المخصصات... المواطنون بين مطرقة الكورونا وأزمة المواصلات
يتكرر المشهد – الذي بات مألوفاً لكثير من السوريين حتى قبل سنوات الأزمة - بصورة شبه روتينية مرتين يومياً و على مدار العام : بضع عشرات من المواطنين على مختلف مشاربهم، ينتظرون (السرفيس ) بعيون مترقبة وبتأهب واضح مع وضع كل منهم يديه بصورة تفقدية هوسية على المحفظة أو الحقيبة أو الهاتف المحمول، بانتظار إشارة البدء .
يبدأ السباق عندما يقترب السرفيس و ينتهي غالباً عندما يرفع السائق يده باسطاً راحة كفه معلناً بإشارة أصبحت معروفة بدء سيل الشتائم من الأخوة الواقفين منذ فترة ليست بالقصيرة على (الشوفير يلي مالو طالع) ، لتنعكس هذه المشكلة على المتنفس الوحيد الباقي للمواطنين " صفحات التواصل الاجتماعي و المواقع الالكترونية " عبر كم هائل من الشكاوى حول وسائل النقل العامة عدم وجود أو قلة أو تقاضي أسعار زائدة .
محور هذه الأزمة المشتقات النفطية والتي تقل يوماً بعد يوم بفضل الحصار المفروض على سوريا وحزمة العقوبات التي تتفنن الإدارة الأمريكية بفرضها على سوريا ومن يجرؤ من حلفاءها على تقديم بعض العون للشعب السوري، الذي يرزح تحت ضغط كبير سببه الوضع المعيشي المتردي أساساً.
نقص المحروقات السبب المباشر
زيادة تقنين الكهرباء عزز الأزمة على صعيد نفسي من جهة، وزاد الضغط على المحروقات لتلبية حاجة مولدات الأنشطة الاقتصادية الصغيرة التي لا يوجد مخصصات فعلية لها بالخطة الحكومية، ليأتي إقرار حزمة من القوانين الحكومية كإشارة لبدء توزيع المحروقات بالتنقيط:
ليس أولها إقرار مجلس الشعب بتاريخ 24 آذار لقانون السماح لسيارات الخاصة بنقل الركاب والمعروفة باسم ( الفان أو التكتك ) حيث تعمل هذه السيارات - منذ سنوات - على تخديم عدة مناطق ريفية مثل صحنايا و جديدة عرطوز و مناطق ضمن مدينة دمشق كبرزة و ركن الدين و فانات النقل بين المحافظات، وفي حين أكد واضعو القرار أنه جاء ليسد فجوة غياب التشريع لظاهرة نقل الركاب بواسطة المركبات الخاصة بصورة مخالفة والمساهمة بنقل الركاب دون زيادة في أعداد المركبات، اعتبره بعض المواطنين أنه دليل استفحال أثر الحصار على قطاع النقل العام الذي يعتمد بنسبة كبيرة على السرافيس التي يعود تاريخ صناعة معظمها للعام 1990 أو 2000 كأحسن تقدير.
ثم أتى تصريح السيد مازن دباس عضو المكتب التنفيذي بمحافظة دمشق حول تخفيض مخصصات المحافظة من مادة البنزين يومياً من 48 إلى 41 طلب ومادة المازوت من 18 إلى 14 طلب، مشيراً إلى أن الأولوية في التوزيع ستكون للمشافي والأفران ووسائط النقل والمؤسسات الحكومية ليطلق العنان لجنون أزمة المواصلات .
بينما أكد مراقبون أن أزمة النقل لم تبدأ مع مضاعفة سعر البنزين " الممتاز " من 475 ليرة سورية لليتر إلى 750 ليرة منتصف الشهر الفائت، لكنها تفاقمت عندما تفاجأ السوريون بإعلان وزارة النفط عن تأخر وصول للناقلات التي كانت تحمل النفط ومشتقات نفطية إلى البلاد بسبب جنوح باخرة في قناة السويس - التي يفترض أصلاً أنها تضع الكثير من العقبات على حركة السفن من و إلى سوريا - مما زاد ترشيد الاستهلاك و شح المحروقات .
الكل سواسية
أصحاب السيارات الخاصة ليسوا أوفر حظاً من أولئك الذين يعتمدون على النقل العام ، حيث الطوابير التي تمتد لعدة كيلومترات والوقوف عليها يمتد لساعات ، بل و أصبحت مناطق الكازيات من المناطق التي يتجنبها السائقون بسبب الازدحام الخانق في الشوارع المؤدية من و إلى محطات الوقود في أحد هذه الطوابير حدثنا مهند : أنه توقف مساءً عند "الكازية ليحجز دور " حسب تعبيره لأنه كان هناك صهريج يقوم بتفريغ كمية من البنزين في خزان الكازية، ومع إغلاق الكازية قرابة منتصف الليل ولأنه لم يتمكن من اليوم السابق من التعبئة قرر الوقوف حتى " الله يفرجها " .
الانتظار استمر حتى صباح اليوم التالي في ليلة باردة نسبياً عند الصباح تفاجأ الواقفون بأن التوزيع لن يبدأ حتى العاشرة على عكس المتوقع، ومع اقتراب موعد الذهاب إلى العمل انسحب من الطابور بخيبة و بحرقة كونه لا يستطيع طلب إجازة لأنه مدير إنتاج في معمل غذائي بريف دمشق، ولأنه مجبر على اصطحاب بعض الموظفين لأن الباص الخاص بالشركة لم يتمكن من الحصول على مادة المازوت.
مازن أحد طلاب جامعة دمشق وصف لنا رحلته اليومية من وإلى الجامعة: بعد ساعات الانتظار تتبخر الأخلاق والغيرية ولا مكان للبطاقة الذكية، لا يشفع لك عمرك ولا مكانتك الوظيفية أو حتى حالتك الصحية.
جل ما يمكنك الاعتماد عليه الحظ وسرعة ومرونة حركتك و قوتك الجسمية في عودة واضحة للبدائية عندما تعلق في موجه بشرية تشبه ما وصفها أحدهم "بمصارعة للثيران".
و يذكر أيضاً أنه كان يشعر بالغيرة من زملاء له يسكنون في منطقة قريبة من الجامعة حيث كان يصلون على دراجتهم للجامعة عندما يكون الجو معتدلاً، الغيرة تحولت لشعور بالذنب بعد تعرض الدارجة الكهربائية لأحدهم لسرقة البطارية أول مرة و من ثم سرقة الإطارات، الدراجة ظلت معلقة بأحد الأسيجة القريبة من الجامعة لأنه لم يمتلك المال لاستبدال القطع المسروقة، وباعها "على وضعها" بثمن بخس لا يوازي ربع قيمتها الحقيقية .
ولعل أكثر التصريحات التي تركت لدى جموع الطلاب أثراً طيباً مناشدة الدكتور أحمد العيسى من جامعة تشرين زملاؤه في جامعات القطر أن يسمحوا للطلبـة المتأخرين هذه الأيام بالدخول إلى المحاضـرات وحلقات البحـث والعملـي وإن كانوا متأخرين.
بدورها الآنسة علا التي تعمل كمدرسة فيزياء قالت: المشكلة الحقيقية عندما تحتاج لأكثر من وسيلة نقل بين منزلك وعملك و في حالتي من ضاحية الأسد لمنطقة كراجات العباسيين و بعدها لشارع الثورة، و تحصيل مقعد في مجلس الشعب يبدو أسهل من تحصيل كرسي في " ميكرو مزة جبل كراجات " في ساعات الذروة التي أصبحت تمتد طول اليوم ، مع ظاهرة اختفاء سرافيس ضاحية الأسد مع غياب الشمس ! " شكلن بينامو بكير" ، وتذكر أنها قدمت استقالتها من عملها المسائي لأنها تدفع مايوازي راتبها " تكاسي " .
الغائب الحاضر
نظرة خاطفة على جموع الواقفين في منطقة جسر الرئيس إحدى أكثر المناطق ازدحاما في العاصمة السورية دمشق ، تعطي دلالات واضحة عن عمق الأزمة ليس على صعيد النقل بل أيضاً على الصعيد الصحي، فالتباعد الاجتماعي تحول من وسيلة وقاية من كورونا إلى " نكتة " في باصات تغص بركابها حتى أنها أصبحت تنوء بحملها فباتت تتحرك بتثاقل واضح على الإطارات و أجهزة التعليق الخاصة بها .
وسط هذا المشهد في أحد السرافيس مواطنة وحيدة تبدو محافظة على الكمامة كملاذ أخير ووحيد باقي في مواجهة انتقال فيروس كورونا بالحديث معها تبين أنها تعمل سكرتيرة لدى عيادة طبيب أسنان و بدأت بالكلام قائلةً بأن الكورونا باتت من المنسيات و الكمامة بدل أن تكون وسيلة للوقاية أصبحت رفاهية تشعرك بأنه منبوذ اجتماعياً لدى كل من يركبون باصات النقل الداخلي الممتلئة عن آخرها جلوساً ووقوفاً خاصة إذا كنت تتدلى من باب الباص!
هنا لا يكاد يسمع صوت للمنطق!
أعداد الوفيات و المصابين بكورونا اليومية مجرد أرقام ، تحذيرات الموجة الثالثة من المرض و أخبار امتلاء الأسرة في وحدات العزل أخبار تمر مرور الكرام ، لامبالاة مزعجة صحياً، الأخبار الوحيدة ذات الأهمية كانت نجاح تعويم الباخرة و خبر ورد على لسان المدير العام الشركة العامة للنقل الداخلي المهندس سامر حداد : حول زيادة عدد باصات النقل الداخلي و زيادة ساعات عملها و توزيعها على الخطوط الأكثر ازدحاماً
وإذا عدنا لنفس الوقت في ذلك من العام الماضي و قبل أي تسجيل لحلالات كورونا ، تم إيقاف باصات النقل الداخلي عملاً بمبدأ التباعد الاجتماعي، الآن من يجرؤ على فرض قيود على حركة المواطنين في ظل وضع اقتصادي ساحق و حتى عند الحديث عن تعليق الدوام في المدارس على الأقل و التي تظهر نسب عالية من الإصابات يصر وزير التربية على استمرار دوام المدارس حيث صرح بأن: ايقاف الدوام المدرسي غير وارد على الاطلاق في عرف وزارة التربية، و أنه لن يقوم بأي إجراء بانتظار الحظر المجتمعي الكامل ، ليصدر في الثالث من نيسان قرار تعليق الدوام في رياض الأطفال و التعليم الأساسي و الجامعات .
من وجهة نظر أخرى
يقول أبو أيمن وهو سائق سرفيس جديدة عرطوز : عملت المحافظة على تنظيم عملية توزيع المازوت من خلال ربط كل خط سرفيس بمحطة وقود معينة ، بالإضافة لتشكيل لجان مهمتها متابعة كيلومتراج كل سرفيس مع وضع مراقب خط ببداية و نهاية كل خط ، يقوم بختم كرت خاص لكل سرفيس للتأكد من أنه يخدم الخط الذي ينتمي اليه ، لكن بالمجمل المخصصات اليومية ( 30 ليتر ) لاتكفي سوى أربع أو خمس "سفرات" يومياً مع بقاء النذر اليسير لرحلة العودة للكازية مساءً أو ليلاً .
سائق آخر يخدم منطقة التل يقول أن هذه الإجراءات لا تمنع التسرب بشكل مطلق فالسائق يشترط أحياناً على الركاب الوصول إلى نقطة معينة ، ثم يقوم بأخذ طلاب أو موظفين داخلياً ضمن المنطقة المكلف بتخديمها ليضمن أن عداد المسافة أو الكيلو متراج " بيمرك" ثم يقوم ب " سفرة " نظامية على الخط لدفع الشبهات عنه، وهو من حقه حسب محدثنا لأن أسعار الزيوت و الفرامل و الاطارات باتت خيالية و الأجرة قليلة و خاصة للخطوط القاسية التي تزيد الضغط على السرفيس مكانيكياً مثل خطوط المهاجرين و التل و ضاحية قدسيا .
ومع وصول ساعات الانتظار على البنزين ل12 ساعة حسب أحد السائقين ارتفعت أجرة التكسي إلى أرقام فلكية ويجب على كل مواطن "أن يحسبها منيح " و يفكر ملياً قبل مغامرة ترك منزله، و بحسب متابعين ارتفعت أجرة التكسي سرفيس من 500 ليرة للراكب من جديدة عرطوز في مثل هذا الوقت من العام الماضي إلى 2500 ليرة على الأقل من الريف للمدينة أما بالعكس فتصل ل 4000 ليرة للراكب.
الحل السحري وانتظار الرســـــــــــــــــــــــــــــــــــــالة ...
مدفوعةً بنجاح تطبيقها على توزيع الغاز المنزلي - و نأمل ألا تمتد للخبز – بعد مرور يومين بدء العمل بنظام رسائل تطبيق " وين "، اختفت طوابير البنزين؛ لا لتوافر المادة بل بسبب تعليمات جديدة مفادها : "عزيزي المواطن روح انتظر بالبيت و نحنا مناديك " ،الطوابير لم تختفي وحدها بل و معظم السيارات العامة و الخاصة من العاصة دمشق و بقيت باصات النقل الداخلي ترمح وحيدة في شوارعها في فصل جديد من مسرحيات الأزمة .
وين الرسالة ؟ وين البنزين ؟ وين السيارات ؟ أسئلة تداولها السوريون على مدى يومين دون جواب، مع شبه توقف لتطبيق " وين " الذي تعرض لمشاكل تقنية بسبب طابور المستخدمين على بوابات السيرفر الخاص به، في شوارع شبه خالية عدا عن بضع تكاسي مازال سائقوها يتنافسون في طلب أرقام فلكية بناء سعر بنزين السوق السوداء الذي يبدأ من 60 ألف للعشرين ليتر.
بعيد عن العين بعيد عن الحل
بعيداً عن كم تصريحات المسؤولين وأعين المواطنين مشكلة نقل لا تجد الاهتمام الكافي لأنه ببساطة لا تمسهم بصورة مباشرة وهي مشكلة نقل و توزيع المنتجات ومستلزمات الإنتاج، ضمن المحافظة الواحدة وعلى مستوى القطر، وما يترتب على هذه المنتجات من قيمة مضافة لا يشعر المواطن بها لأنه ترك للأسف فريسة لارتفاع الأسعار دون أي مبرر منطقي!
و في حين يقتصر دور وزارة التجارة و حماية المستهلك على التفاخر بعدد الضبوط و المخالفات؛ أغلقت معظم شركات النقل في مختلف محطات الانطلاق في المحافظات السورية خطوط الهاتف الخاصة بها و ألغت وخفضت الكثير من الشركات رحلاتها المسائية و بات البعض منها يطلب أسعاراً خيالية، بالرغم من تصريح نائب محافظ دمشق أنه لا تخفيض كميات المازوت لوسائل النقل !
ليبقى سؤال أين تذهب السرافيس؟
هل العقوبات للمتسربين من سائقيها رادعة بما يكفي ؟
و لماذا يرفض سائق باص أحد شركات النقل الداخلي الخاصة التحرك من مركز الانطلاق إلا عندما يكون باصه يغص بالركاب جلوساً ووقوفاً ، كم هو عدد الركاب الكافي له ؟
عزيزي المواطن : دبّر حالك
يلوك البعض عبارة أن ثقافة الشكوى غائبة عن المواطن ؛ المواطن الذي لا يجد متنفساً بين زحام الأزمات و الطوابير، و محاولة مزامنة نشاطاته اليومية مع جدول تقنين و - أعطال- الكهرباء ، ولتصبح عبارة : الله يفرجها الشكوى الوحيدة التي يبثها لله سبحانه و تعالى الوحيد القادر على حل كل المشكلات التي تسهلك وقته و قدراته المادية و الجسدية المحدودة ، مع تحول عبارة "تعا هالناح" التي أطلقها أحد المواطنين في فيديو يصف الواقع المعيشي العام الماضي لـ#هاشتاغ أو الجملة الختامية لكل يوم في حياته.